النفوذ الأمريكي لم يشهد التاريخ قوة كالقوة الأمريكية، التي نمت بسرعة غير مسبوقة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينات، بعد أن بسطت نفوذها العسكري والسياسي في أوروبا، والشرق الأوسط، وآسيا، وهيمنت على الاقتصاد العالمي بعملتها القوية، وأصبحت رؤيتها هي السائدة بلا معارضة عبر شبكة إعلامية ضخمة، حتى أضحت مجرد فكرة منافسة الولاياتالمتحدة ضربا من الجنون. ومثلما نمت بسرعة هائلة، نشهد تراجعا هائل السرعة في السنوات الأخيرة، بداية من حديث ترمب في ولايته الأولى عن تفكيك الناتو، ثم أحداث الكابيتول التي شهد فيها العالم آلاف الأمريكيين وهم يقتحمون أهم رموز الديمقراطية في بلادهم، ما هز الصورة التي رسمتها أمريكا منذ إنشائها، وكشف هشاشة القيم الديمقراطية التي روجت لها لعقود، وبنت أمريكا عليها صورتها العالمية.
وعزز ذلك تشكيك ترمب نفسه في الديمقراطية الأمريكية، حين ظهر أمام العالم يتهم غريمه بتزوير نتائج الانتخابات الأمريكية، ومتهما الإعلام الأميركي بالكذب والتحيز ونشر المعلومات المضللة. النفوذ السياسي وفي فترته الثانية، استمر ترمب في مواجهة ما أسماها الدولة العميقة في أمريكا، وأخذ في توسيع الهوة مع الحلفاء من خلال تصريحاته المعادية، مثل ضم كندا، وشراء جرينلاند. وأخذت واشنطن في خسارة أهم نقاط قوتها، النفوذ الدولي، إذ خرج أهم حلفاؤه معلنين الوقوف أمام أمريكا والاعتماد على أنفسهم، وحتى مقاطعة البضائع الأمريكية المتواجدة في الأسواق. فبإعلان الرسوم الجمركية لم يقف ترمب أمام أهم حلفائه فحسب، بل خسر كثيرا من مصداقية واشنطن الدولية، فالحلفاء الذين آمنوا بالحلم الأميركي، والعولمة والاقتصاد الحر وغيرها من الأفكار الأميركية، يشهدون انهيار تلك الأفكار على يد ترمب.
بل من سخرية القدر، تحارب الصين من أجل حرية التجارة، بينما الولاياتالمتحدة تعلن عن إجراءات حمائية، وتشجع على توطين الصناعة الذي حاربته في السابق عند حلفائها، بل وتدعو الشعب أمريكي المعتاد على الأرفف الممتلئة في المحلات، والحياة المرفهة، إلى التقشف وعدم شراء الكماليات! النفوذ الاقتصادي وفي عهد ترمب، شهد العالم لأول مرة، اعتراف أمريكا ضمنيا بأنها من تواصلت مع الصينيين من أجل عقد اتفاق تجاري عقب نحو شهر من إعلان ترمب ما أسماه يوم التحرير، والذي فرض فيه رسوما جمركية تاريخية. فردا على تصريحات متحدث الخارجية الصيني بأن واشنطن هي من بادرت بالاتصال، قال ترامب "ليس مهما من اتصل أولا".. هذا التصريح يعني تحولا هائلا في حسابات الاقتصاد العالمية، ويعني أن الصين انتصرت في لعبة عض الأصابع، وأعلنت نفسها كقوة سياسية واقتصادية كبرى أمام دولة كانت تعتبرها قبل سنوات قليلة من العالم الثالث ولا ترقى لمجابهتها. كل ذلك بالإضافة إلى انخفاض حصة الولاياتالمتحدة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 24.3% عام 2000 إلى حوالي 15.5% في 2024، وفقًا لصندوق النقد الدولي.
عوامل الانحدار: الجغرافيا السياسية وصعود قوى بديلة لم يكن انحدار النفوذ الأمريكي ناتجًا فقط عن ترمب وسياساته، بل كانت فترة ترمب كاشفة، فمثلما كانت لحظة جورباتشوف آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي، جزءًا من تحولات أعمق في النظام العالمي. فتمامًا كما أعلن ميخائيل جورباتشوف محاولة إنقاذ الاتحاد السوفيتي من الانهيار عبر إصلاحات داخلية وتقليص الالتزامات الخارجية، يبدو أن ترمب يسير على نهج مشابه، مدفوعًا بإحساس أن النظام الليبرالي العالمي -الذي أنشأته الولاياتالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية- أصبح مكلفا للغاية. إصراره على تفكيك التحالفات التاريخية مثل الناتو، وتشكيكه في جدوى المؤسسات متعددة الأطراف مثل منظمة التجارة العالمية والاتحاد الأوروبي، يعكس نزعة انعزالية جديدة تعيد تشكيل موقع أمريكا في العالم، على غرار ما فعله غورباتشوف عندما تخلّى عن الهيمنة السوفيتية في أوروبا الشرقية. هذا التحول الجذري في السياسة الأمريكية تجاه الحمائية التجارية والانكفاء الخارجي، يأتي في وقت تواجه فيه واشنطن ما يُشبه التمدّد الإمبراطوري الزائد (imperial overstretch)، وهو المفهوم الذي استخدمه المؤرخ بول كينيدي لوصف اللحظة التي تتجاوز فيها القوة العظمى قدراتها الاقتصادية لدعم نفوذها العالمي. يأتي ذلك بينما يشهد العالم صعود قوى مثل الصينوروسيا وعودة التحالفات الإقليمية المستقلة لتعيد تشكيل موازين القوى الدولية. ما جعل الكثير من المحللين الغربيين يشبهون ترامب بجورباتشوف، مع فارق أن الانهيار الأمريكي قد لا يكون ماديًا بالدرجة الأولى، بل مؤسساتيًا ونفوذيًا، خاصة إن استمرت واشنطن في سياساتها المنفصلة عن العالم المتعدد الأقطاب الذي يتشكل حاليًا. صعود الصين برزت الصين كقوة شاملة، مدعومة بمبادرة الحزام والطريق التي وسعت نفوذها السياسي والاقتصادي في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، إلى جانب قيادتها لتقنيات تكنولوجيا الجيل الخامس (5G) عبر شركة هواوي التي فشلت المحاولات الأميركية في إضعافها. كما تمكنت الصين من البروز كقوة في مجال الذكاء الاصطناعي، وسيطرتها المتزايدة على منصات مؤثرة عالميًا مثل "تيك توك"، ما قلص الهيمنة التكنولوجية الأميركية التي كانت تُجسدها شركات مثل Google وMeta، والتي بدأت تفقد ثقة المستخدمين خاصة الأصغر سنا بسبب الفضائح، والرقابة. انهيار السردية الأمريكية: من الداخل إلى الخارج أما أبرز عوامل الانهيار الأمريكي فهي انهيار سرديتها، خاصة بين الشباب، فبحسب استطلاع "Pew Research 2023"، فإن ثقة الأمريكيين بمؤسساتهم الإعلامية والقضائية انخفضت إلى أدنى مستوياتها منذ 50 عامًا، كما يرى 67% من الشباب الأمريكيين أن النظام السياسي الأميركي بحاجة إلى إصلاح جذري أو إعادة بناء كاملة.
وفي السنوات الأخيرة، أقرّ وليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الحالية، بأن القيادة الأميركية للعالم لم تعد تُؤخذ كأمر مُسلَّم به، بل أصبحت محل شك متزايد في عيون الأصدقاء قبل الخصوم.. تتعزز هذه القناعة مع صعود نماذج بديلة مثل الصين، وروسيا.
النفوذ العسكري.. انكشاف لا انسحاب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أغسطس 2021 كان لحظة مفصلية في تراجع الهيبة العسكرية. فرار القوات الأميركية ومشاهد سقوط كابل بيد طالبان خلال 11 يومًا فقط، أضعف صورة الجيش الأميركي كقوة لا تُقهر. كما فشلت واشنطن في منع روسيا من غزو أوكرانيا، وأظهرت الحرب أن قدرات الردع الأميركية لم تعد كافية وحدها لفرض النظام، بالإضافة إلى اتفاق واشنطن مع الحوثيين لوقف إطلاق النار دون إشراك إسرائيل، مما زاد من الاتجاهات نحو تعدد الأقطاب العسكرية.
سنن التاريخ القوة العسكرية لا يمكن أن تعوّض عن الضعف الاقتصادي المزمن. هكذا رأى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي سقوط الإمبراطورية البريطانية، فكما أرهق التمدّد الإمبراطوري خزائن بريطانيا في القرن العشرين، تبدو الولاياتالمتحدة اليوم عالقة في معادلة مشابهة. تراجع القدرة على تمويل شبكة تحالفات عالمية، مقابل اتساع التفاوت الطبقي الداخلي، وانقسام اجتماعي آخذ في الاتساع، وصعود منافسين جدد على رأسهم الصين. وفيما يرى كثيرون في ترمب تجليًا شعبويًا لهذا الانقسام، فإن المنظومة نفسها من وول ستريت إلى وادي السيليكون تبدو مرتبكة في وجه عالم يتحول بسرعة. وكأن واشنطن تعيش اليوم نسخة محدثة من تحذير توينبي: الحضارات لا تُقتل، بل تنتحر. لكن السؤال الأهم ليس هل ستنهار أمريكا؟، بل كيف سيكون ذلك الانهيار؟ وما شكل العالم القادم بعد أفولها؟، وهل سيكون أكثر عدالة وتوازنًا أم سنشهد انهيارا فوضويا؟ ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار ال 24 ساعة ل أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري ل أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية. تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هنا