عادة ما تكون الأنظمة الحاكمة لأى بلد بالعالم في أضعف حالتها الأمنية والاقتصادية في أعقاب الثورات الكبرى التي تحطم عروش جبابرة الحكام، لكن المراحل الانتقالية تختلف من دولة لأخرى ما بين النجاح السريع والفشل الذريع، وهو ما ترصده "فيتو" في عدد من الدول الأوربية التي حدثت بها ثورات، أمثال الثورة الفرنسية والبولندية والرومانية والبوليفية.. وهنا يبرز تساؤل مهم؛ هل إدارة المرحلة الانتقالية بعد الثورة يميل نحو التحول إلى الديمقراطية وترسيخها ؟.. الاجابة عن هذا السؤال تنطلق من افتراض أنه "كلما زادت قوة وتأثير القوى الثورية وتصميمها على تحقيق الديمقراطية، زادت قدرة المرحلة الانتقالية على تأسيس الديمقراطية". الثورة الفرنسية استمرت عشر سنوات، ومرت عبر ثلاث مراحل أساسية، أولها فترة الملكية الدستورية بداية من يوليو 1789 إلى أغسطس 1792، وتميزت هذه المرحلة بقيام ممثلى الهيئة الثالثة بتأسيس الجمعية الوطنية واحتلال سجن الباستيل، وإلغاء الحقوق الفيودالية، وإصدار بيان حقوق الإنسان، ووضع أول دستور للبلاد. وامتدت المرحلة الثانية من أغسطس 1792 حتى يوليو 1794، وهى فترة بداية النظام الجمهوري وتصاعد التيار الثوري، حيث تم إعلان إلغاء الملكية ثم إعدام الملك وإقامة نظام جمهوري متشدد. فيما شهدت المرحلة الأخيرة من يوليو 1794 إلى نوفمبر 1799 فترة تراجع التيار الثوري، وعودة البرجوازية المعتدلة التي سيطرت على الحكم ووضعت دستورا جديدا وتحالفت مع الجيش، كما شجعت الضابط نابليون بونابارت على القيام بانقلاب عسكري ووضع حد للثورة وإقامة نظام ديكتاتوري توسعي. ومن أهم نتائج الثورة الفرنسية هو تعويض النظام الجمهوري الملكية المطلقة، وإقرار فصل السلطات، وفصل الدين عن الدولة، والمساواة وحرية التعبير، والقضاء على النظام القديم، وفتح المجال لتطور النظام الرأسمالي وتحرير الاقتصاد من رقابة الدولة وحذف الحواجز الجمركية الداخلية، واعتماد المكاييل الجديدة والمقاييس الموحدة، وإلغاء الحقوق الفيودالية وامتيازات النبلاء ورجال الدين ومصادرة أملاك الكنيسة، كما أقرت الثورة مبدأ مجانية وإجبارية التعليم والعدالة الاجتماعية وتوحيد وتعميم اللغة الفرنسية. بينما في المرحلة الانتقالية للثورة البولندية تخطت القوى السياسية خلافات كثيرة لكتابة دستور يليق بمسار التحول الديمقراطي ودائما كانت الأصابع تتجه إلى دول أوربا الشرقية عند الإشارة إلى ديمقراطيات الموجة الثالثة، كمثال ناجح للتحول الديمقراطي والتخلص من سيطرة الحزب الشيوعي في هذه الأنظمة، والباحث الجيد في الشأن البولندي ولما جرى في أثناء المرحلة الانتقالية التي مرت بها يجد أوجه تشابه بينها وبين ما يحدث في مصر، وهو ما يحتم على الأخيرة أن تدرس جيدا التجربة البولندية للعبور إلى بر الأمان، لاسيما بعد أن دخلت مصر مرحلة انتقالية ثانية عقب ثورة 30 يونيو وعزل الرئيس السابق محمد مرسي، فالثورة البولندية قامت لرفض سياسات قمعية من النظام البولندي والتدهور المستمر في وسائل المعيشة والصعوبات الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة ووجود فجوة كبيرة بين السلطة الحاكمة والشعب. وخلال المرحلة الانتقالية شهدت بولندا حالة من التشرذم السياسي والخلاف بين القوى السياسية ومجلسي الشيوخ والنواب، لكن في النهاية أيقنت أنه لابد من عبور تلك المرحلة بنجاح عن طريق المصالحة وتدارك الخلافات والتمهيد لبناء دولة ديمقراطية مستقرة، ولعل أبرز إنجازات هذه المرحلة في بولندا هى كتابة دستور قوي تم إقراره في 1997. ومن أهم الخطوات في أي مرحلة انتقالية هى التوافق حول دستور قوي يأتي بديلا للدستور الذي كان أحد أسباب انهيار الدولة، وقد يكون من المفيد استعراض التجربة البولندية في كتابة الدستور خلال المرحلة الانتقالية الحالية التي تمر بها مصر بعد سقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وكذلك أهم المشكلات التي واجهتها وكيف تم حلها بالتوصل إلى دستور ديمقراطي يحقق الاستقرار للدولة. تعد بولندا من أوائل الدول الأوربية التي كان لديها دستور مكتوب، حيث تم اعتماد أول دستور مكتوب فيها عام 1791 ولكن لم يتم العمل به لانهيار الدولة البولندية عام 1795، ومع ذلك أصبح هذا الدستور رمزا للاستقلال والتقدم وغالبا ما يتم الإشارة له من قبل الساسة والمؤرخين، وبعد ذلك شهدت بولندا العديد من الدساتير مثل: دستور 1921، ثم دستور 1935، إلى أن انتهت بالحرب العالمية الثانية وأصبحت بولندا تابعة للاتحاد السوفيتي، فتم إقرار دستور يوليو 1952 والذي حمل الطابع الشيوعي السوفيتي، وضمن هذا الدستور للبرلمان ممثلا في مجلس النواب فقط صلاحيات كبيرة تفوق صلاحيات رئيس الجمهورية، وكانت بولندا في ذلك الوقت تتبع نظام الحزب الأوحد، وكان حزب العمال المتحدين الشيوعي، هو المسيطر آنذاك، وما تبع ذلك من اختلاف بين القوى السياسية حول صياغة الدستور حتى الوصول إلى توافق وطني عام 1997، ولذلك يمكن اعتبار هذا الدستور دليلا قويا على نجاح المرحلة الانتقالية في بولندا، وأن الوقت الطويل الذي استغرق لصياغته لم يضع هدرا، بل ساعد على خلق ديمقراطية مستقرة، الأمر الذي لابد وأن يؤخذ في الاعتبار عند تعديلات الدستور المصري خلال المرحلة الانتقالية الثانية بعد سقوط الإخوان. وفى رومانيا استمرت المرحلة الانتقالية قرابة ال 15عامًا، وهى من أطول المراحل الانتقالية في أوربا الشرقية لسببين رئيسيين، الأول تردي الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير بما لم يسمح لها بالتحول الاقتصادي والديمقراطي السريع أو السهل باتجاه المعسكر الليبرالي الرأسمالي، والآخر هو تشرذم القوى السياسية وضعفها الشديد وعدم اتفاقها على رؤية واحدة لمستقبل النظام السياسي أو الاقتصادي للدولة، ما أدى إلى فراغ سياسي فور سقوط تشاوشيسكو لم يتقدم لملئِه سوى الصف الثاني من رجال النظام الديكتاتوري البائد. وقد كانت المرحلة الانتقالية غير مستقرة ومليئة بالتقلبات السياسية، حيث تولى "إيون إليسكو" إدارة البلاد باعتباره أحد قيادات "جبهة الخلاص الوطني" التي تكونت من أعضاء سابقين في الحزب الشيوعي التابع لتشاوشيسكو ولجنته المركزية، والذين تحولوا بين عشية وضحاها إلى ثوريين مطالبين بالديمقراطية، استغلوا الفراغ السياسي وضعف المعارضة ليصلوا إلى السلطة، ونجح إليسكو في استقطاب الجيش والإعلام، وتمكن من القضاء على المظاهرات الطلابية المدافعة عن الثورة المضادة لحكمه باعتباره امتدادا لتشاوشيسكو، فاتهمهم بالعمالة وتم التعامل معهم باعتبارهم مثيري شغب، واستخدم عمال المناجم الأكثر فقرًا والأكثر تضررًا من الركود الاقتصادي للاعتداء عليهم إلى أن تم تقديمهم للمحاكمات. جبهة الخلاص أصدرت فور توليها قيادة البلاد عدداً من القرارات الثورية، مثل منع الحزب الشيوعي، وألغت العديد من القرارات المتشددة التي صدرت في عهد تشاوشيسكو، كما حولت العديد من أفراد الحزب الشيوعي والجيش للمحاكمات العسكرية بتهمة التعدي على المواطنين، إلا أن سياساتها الفعلية كانت تهدف إلى بقاء جوهر النظام الشيوعي واستمرار سياساته بعد صبغها بالديمقراطية. وعلى الرغم من الاضطرابات التي واجهت المرحلة الانتقالية، إلا أن رومانيا لم تواجه أزمات فيما يتعلق بكتابة الدستور الجديد، حيث تحولت "جبهة الخلاص الوطني" إلى حزب سياسي، بجانب العديد من الأحزاب السياسية الوليدة بعد الثورة، سواء من المعارضة أو من تحت عباءة النظام الشيوعي السابق، وبإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مايو 1990، فاز إليسكو بالرئاسة، وحزبه بالأغلبية البرلمانية، وتم تشكيل لجنة من البرلمانيين والفقهاء الدستوريين الذين كتبوا مسودة الدستور، أجازها البرلمان الذي انعقد باعتباره جمعية تأسيسية للدستور، وتم طرح الدستور للاستفتاء الشعبي في 8 ديسمبر 1991 ليحظى بموافقة نسبتها 77.3%، كما عُدِل الدستور أكثر من مرة لكي يلائم المعايير المطلوبة لانضمام رومانيا للاتحاد الأوربي. وتعد التجربة الكينية نموذجا للتحول الديمقراطي التدريجي والذي استغرق قرابة عشرين عاما، فبعد ضغوط من الدول المانحة وأخرى داخلية من المعارضة، بدأت المرحلة الأولى في 1991 بإتاحة التعددية الحزبية وإنهاء نظام الحزب الأوحد، لتليها المرحلة الثانية عام 2000 عندما تم الاتفاق على إعداد دستور جديد للبلاد، غير أن ذلك الأمر تأخر كثيرا ومر بفترات من الركود، وبعد رفض الكينيين لمسودة الدستور المقدمة 2005 ومرور البلاد بفترات اضطراب في 2007 على خلفية انتخابات الرئاسة والاتهامات التي لاحقتها بالتلاعب في النتائج، تم إعداد مسودة جديدة للدستور حصلت على الموافقة الشعبية في 2010. ومرت بوليفيا منذ استقلالهاعام 1825 بفترة من عدم الاستقرار السياسي خلال الفترة الانتقالية، تمثلت في وقوع ما يقرب من مائتي انقلاب عسكري، وقيام ثورة في 1952، وفي 1982 تسلم المدنيون مقاليد الحكم في بلد يعاني الفقر الشديد والاضطراب والتوتر الاجتماعي إضافةً إلى تجارة المخدرات. وفي 2005 مثَّل وصول "خوان إيفو موراليس"، زعيم حزب الحركة من أجل الاشتراكية، لرئاسة البلاد سابقة في تاريخ بوليفيا، كونه أول رئيس للبلاد من أصول هندية، علاوة على حصوله على 53.7 % من أصوات الناخبين، وهى نسبة لم يحصل عليها أي رئيس لبوليفيا من قبل، حيث كان الفائز بمنصب الرئيس هو من يحصل على أكثرية أصوات الناخبين.