في ظل ما تموج به البلاد من أحداث سياسية متتالية، وتهديد كافة القوى السياسية وفى مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة، بإغراق مصر في بحور من الدماء، إذا ما سقط الرئيس مرسى بفعل مظاهرات 30 يونيو.. كان ضروريا أن نتحاور مع واحد من أكثر الشخصيات إلماما بالوضع الداخلى والخارجى لمصر.. قلت في نفسى «ليت اللواء عمر سليمان رئيس المخابرات العامة الأسبق كان على قيد الحياة، فهو الوحيد الذي يمتلك أكبر قدر من المعلومات في كافة الاتجاهات باعتباره «الصندوق الأسود» لمصر.. وبعد تفكير طويل قررت أن استحضر روح الرجل وأحاوره في كافة الأمور، وهو ما حدث بالفعل وكان لى معه هذا الحوار المهم: بهدوئه وتجهمه المعتادين جلس «الجنرال» بكامل أناقته، واضعا قدما فوق الأخرى.. وتنهد في ضيق واضح قبل أن يقول بعصبية: « لماذا أيقظتنى من مرقدى.. ألا تعلم أننى عندما تركت دنياكم بما فيها من صراعات وانقسامات وتخوين ومشاكل داخلية وخارجية، وانتقلت إلى الدار الآخرة، وجدت فيها راحة البال والهدوء النفسى؟.. قلت له: « على رسلك يا رجل.. ما دفعنى لإزعاجك اليوم إلا تدهور الأوضاع في البلاد.. فالمصريون صاروا فرقا وشيعا.. كل فريق يكذب الآخر ويتهمه بالخيانة والكفر.. وأصبحنا على شفا حرب أهلية لا تبقى ولا تذر.. وعندما فتشت في ذهنى لم أجد من هو أقدر منك على تحليل الموقف وتفسير ما يحدث، باعتبارك كنت رئيسا لأهم جهاز سيادى في البلاد ولديك من المعلومات الكثير والكثير.. فجئتك أسألك السبيل للخروج من تلك الدوامة، واستفسر منك عن الأسباب الحقيقية التي أوصلت أم الدنيا إلى هذه المرحلة الخطيرة وغير المسبوقة في تاريخها. بدت ملامح الحزن الشديد على وجه اللواء سليمان وأطرق رأسه إلى الأرض وتساءل في حسرة: « ألهذا الحد وصلت الأمور؟.. اجبته: «بل أكثر من ذلك.. فقبل أيام قليلة خرج أتباع وأنصار جماعة الإخوان المسلمين، ومؤيدو الرئيس مرسى في مظاهرات حاشدة، استعرضوا خلالها مهاراتهم القتالية، وراحوا يهددون ويتوعدون التيارات المدنية المعارضة لهم من الخروج في مظاهرات 30 يونيو، بالويل والثبور وعظائم الأمور.. ومنهم من كفَر المعارضة وحرمَ التظاهر السلمى.. ومنهم من هدد بسحق المتظاهرين.. في المقابل ازدادت حماسة المعارضين وأعلنوا أنه لا تراجع عن إسقاط الرئيس وإخراج الإخوان ومرشدهم من الحياة السياسية، وراحوا يعدون العدة ليوم الزحف العظيم ومحاصرة القصر الرئاسى والاعتصام أمامه، بالتزامن مع احتلال الميادين الرئيسية في مختلف المحافظات.. وهم أيضا أعلنوا أن كل الخيارات مفتوحة ومن بينها اللجوء للعنف لتحقيق أهدافهم».. قاطعنى الجنرال بحدة: « كفى فقد أقلقتنى وأعدت المرارة إلى حلقى بأخبارك الكئيبة.. سل ما بدا لك أجبك، ولتوجز حتى أعود إلى مرقدى اهنأ براحة البال الأبدية». قلت: «فلنبدأ بالأسباب التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة بعد أن كان الشعب المصرى كله فرحا مستبشرا بالثورة، التي أنهت سنوات طوال من الظلم والاستبداد».. أجاب: «أولا.. النظام السابق برئاسة مبارك كانت له إيجابياته كما كانت له خطاياه شأنه شأن أي نظام سياسي في العالم.. ومن أبرز خطاياه أنه صنع من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، أبطالا شعبيين بتعنته وتعسفه معهم والتضييق عليهم سياسيا، ومع تزايد معدلات الفساد في السنوات الأخيرة رأى الناس فيهم «الخلاص».. أما الإخوان أنفسهم فقد كانوا ينتظرون الفرصة للانقضاض على السلطة، لا ليصلحوا ما أفسده النظام السابق ويعملوا على خدمة الشعب بل للانتقام من الجميع.. وكان من الطبيعى عندما تحقق حلمهم ووصلوا إلى الحكم، أن يعملوا على تثبيت دعائم حكمهم، فسيطروا على مجلسى الشعب والشورى، وانفردوا بوضع الدستور، ثم بدأوا في تنفيذ خطة التمكين، وانشغلوا بها عن مصالح البلاد والعباد، فكثرت المشاكل الاجتماعية وساد الانفلات الأمنى وتعددت الأزمات داخل جهاز الشرطة نفسه بسبب محاولات أخونة الداخلية، والسيطرة على الأجهزة السيادية والقضاء، ناهيك عن انهيار الاقتصاد.. وتأثر المواطن البسيط تأثرا مباشرا بكل هذا وأصبح مهددا بالجوع، وعندما أبدى اعتراضه تعاملت معه السلطة الحاكمة بنوع من التكبر والتجاهل، فساد شعور بالغربة بين الجميع، وأدرك الناس أن الإخوان لا هم لهم سوى مصالحهم الشخصية، ومن هنا تولدت فكرة الثورة عليهم».. قاطعته متسائلا: وهل ترى أن هذه الأسباب كافية لإسقاط نظام منتخب؟.. اعتدل الجنرال في جلسته وقال: دعك من كلمة نظام منتخب هذه.. فالجميع يعلم أن الإخوان يجيدون إدارة أي انتخابات يخوضونها ولهم أساليبهم الخاصة في حشد الأصوات، سواء باسم الدين أو من خلال توزيع السلع التموينية من شاى وسكر وأحيانا اللحوم، أي أن نتيجة الصناديق لا تعبر بالضرورة عن شعبيتهم، بدليل خروج الملايين عليهم والدعوة لإسقاطهم.. كما أن مرسى وصل إلى الحكم بأغلبية بسيطة جدا، وكان عليه أن يسعى لزيادة شعبيته بدلا من الانحياز للأهل والعشيرة. عدت أسأل: بصفتك واحدا من أبرز رجال المخابرات.. هل لعبت الإدارة الأمريكية دورا في وصول الإخوان للحكم؟.. أجاب: بالطبع.. منذ انطلاق الشرارة الأولى لثورة يناير، بدأت الإدارة الأمريكية تحركات واسعة، وشكلت فريق عمل ضم عسكريين وسياسيين واقتصاديين، لمتابعة ما يحدث في مصر لحظة بلحظة، ووضع سيناريوهات لتطور الأحداث.. وعندما أيقنت أنه لا تراجع عن إسقاط مبارك، بدأت تبحث عن البديل ووجدت ضالتها في جماعة الإخوان، وفتحت مع بعض قياداتها اتصالات سرية للترتيب لمرحلة ما بعد مبارك، وتعهد الإخوان بحماية أمن إسرائيل والمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، ومنها قدمت واشنطن كل الدعم للجماعة حتى وصلت للحكم».. صمت عمر سليمان قليلا وأضاف: «ولكن الدعم الأمريكى غير مطلق ومرتبط بالمصالح الأمريكية في المقام الأول.. وإذا رأت واشنطن أن الإخوان لن يتمكنوا من الدفاع عن مصالحها، فإنها ستتخلى عنهم فورا وتبحث عن بديل جديد، وهذا لن يحدث في الوقت الراهن، إلا في حالة خروج مظاهرات بأعداد كبيرة في كافة المحافظات، وإصرار المتظاهرين على إسقاط النظام وصمودهم لأيام قليلة في الشوارع والميادين.. وقتها ستعلن أمريكا تخليها عن الإخوان تماما.. واعتقد أن المخابرات الأمريكية بدأت من الآن الاستعداد لمرحلة ما بعد الإخوان». قلت: بمناسبة مرحلة ما بعد الإخوان.. كيف ترى شكل مصر في حالة سقوطهم؟.. شرد الجنرال بذهنه قليلا ثم أجاب: هناك سيناريوهات عدة.. أكثرها تفاؤلا أن يرضى الإخوان بالأمر الواقع وان يجلسوا على مائدة الحوار مع باقى القوى السياسية، وان تقبل بتشكيل مجلس رئاسى مدنى يضم الجميع يتولى إدارة البلاد لفترة انتقالية، مع تعطيل الدستور الحالى والعودة إلى دستور عام 1971، ثم إجراء انتخابات رئاسية لاختيار رئيس لفترة واحدة فقط أيا كانت مدتها، أي رئيس انتقالى أيضا تكون مهمته إعداد دستور جديد ثم إجراء انتخابات برلمانية.. أما السيناريو الثانى فهو لجوء الإخوان وحلفائهم من الجماعات الإسلامية للعنف واستخدام السلاح، بدعوى إحياء الخلافة والمشروع الإسلامى، وفى هذه الحالة ستدخل البلاد في دوامة عنيفة من المصادمات تسيل خلالها أنهار من الدماء.. والسيناريو الثالث وهو الأقرب للحدوث فيتمثل في نزول الجيش إلى الشارع، ولكن هذه المرة بشكل أكثر قوة وإحكام سيطرته على كافة الوزارات والهيئات الحكومية، ويصاحب ذلك فرض كامل لحظر التجوال لفترات طويلة حتى تتم السيطرة على الشارع، وبعد أن تهدأ الأمور يتولى الجيش نفسه مهمة الدعوة لانتخابات رئاسية وبرلمانية .. قاطعته قائلا: «ولكن الجيش له تجربة مريرة في هذا الشأن خرج منها بإهانات بالغة؟».. استطرد: «هذه المرة ستكون مختلفة تماما، فالقوات المسلحة المصرية تعمل وفق إستراتيجية واضحة أساسها الحفاظ على الدولة المصرية وشعبها، والدفاع عن أمنها القومى، وفى سبيل ذلك تتخذ من الإجراءات ما تراه ضروريا لتحقيق ذلك، كما أن هناك رغبة شعبية في نزول القوات المسلحة ثقة فيها، ولكن نزول الجيش لن يحدث إلا في حالتين فقط الأولى احتدام المواجهات وسقوط أعداد كبيرة من القتلى، والثانية خلو منصب الرئيس وخروج ملايين حاشدة في كافة المحافظات تطالب بتولى الجيش السلطة مؤقتا». توقف اللواء سليمان عن الكلام وانتفض واقفا وهو يقول: «أعتقد أننى أجبت على أهم أسئلتك.. فاسمح لى أن أعود إلى قبرى»، وهم بالانصراف.. أسرعت خلفه وقلت: « وماذا عن حركة حماس.. هل سيكون لها دور في إحداث القلاقل في البلاد».. توقف عن المشى والتفت إلىَ وأجاب: « حركة حماس وثيقة الصلة بالإخوان في مصر، وبالطبع ستحاول مساندتهم بكل قوة، ولكن القوات المسلحة المصرية تعرف تحركات عناصرها جيدا وتعلم كيف تتعامل معهم، وإذا شكلوا خطرا على أمن مصر، فستتصدى لهم بكل قوة وحزم.. أيضا حركة حماس مرتبطة بمصر ارتباطا وثيقا، وليس من مصلحتها أن تخسرها مستقبلا وسوف تعيد حساباتها ألف مرة قبل أن تقدم على أي أعمال تخريبية في البلاد.. والآن دعنى اذهب».. قلت: اسمح لى بسؤال أخير».. هز رأسه في ضيق وقال: « لن أجيب على أي سؤال باستثناء سؤالك الأخير.. هات ما عندك».. قلت: «تعلم الأزمة الاخيرة بين مصر وإثيوبيا بسبب سد النهضة.. كيف نخرج منها».. بدت ابتسامة شاحبة على شفتيه وأجاب: « هذه الأزمة بدأت عندما تخلت مصر عن أفريقيا وسمحت لأجهزة المخابرات العالمية خصوصا الإسرائيلية باللعب في دول منابع النيل.. أدركنا الخطأ وتولت المخابرات العامة هذا الملف الخطير، وادارته لسنوات طويلة بكفاءة ونجاح.. ولكن بعد سحب الملف من المخابرات ونقله إلى وزارة الرى ومسئولين لا يعرفون الكثير عن المشكلة، تفاقمت الأمور وعادت إلى نقطة الصفر.. لكن لا تقلق فقد تركنا وراءنا خططا عديدة للتعامل مع هذه الأزمة وأعتقد أنها كفيلة بحلها تماما.. والآن اتركنى ارقد في سلام».. صافحته بحرارة وتركته وانصرفت في هدوء.