لا أعرف أي موضوع يمكن أن يكون القارئ يضعه على رأس اهتماماته، خاصة أن الأحداث الأكثر انتشارا في الإعلام تبدو وكأنها متعمدة، لماذا؟ لا أعرف! فمن ورائها؟ لا أعرف! فمثلا السيناريو الذي حدث من رجل مال عربى يظهر فجأة في أحد الأندية الكبرى وكأنه المخلص، نفس الشخص ينقلب ويذهب للنادي المنافس وكأنه أيضا المخلص، ثم يعود مرة أخرى لأحضان النادي الذي سب إدارته بأنها عصابة تحكم النادي، لو أن "وحيد حامد" كاتبنا العبقري الكبير كتب هذا السيناريو بالتفاصيل التي حدثت، كنا سخرنا من مبالغاته خاصة عندما يكتب التفاصيل وانشغال الرأي العام بها.. ثم يحدث اغتيال شاب في قطار أسوان وتقوم الدنيا في حوار غاب عنه العقل والمعلومات، ثم تظهر ابنة فنان مشهور بتصريح غريب لا يتناسب مع سنها للشيخ الشعراوى، يدل على جهلها وسطحية تفكيرها، فتقوم الدنيا ولا تقعد، كل هذا ولا أعرف كم قضية مهمة تمس المواطن البسيط شغلت الرأى العام؟ لا شيء! وسط هذا المناخ العصبي السطحي وقع تحت يدى قصة تروى حكاية شاعر الحرية وليس المرأة كما يدعون عليه، الشاعر الكبير "نزار قبانى" وكيف أحب وتزوج وكم كانت جراحه عميقة وتألم كما لم يتألم أحد في حبه، بالرغم أن الجميع كان يحسده. القصة تبدأ عندما كان الشاعر يلقى قصيدته في إحدى القاعات التي ضمت مهرجانًا شعريًا في بغداد عام 1962م فوقع بصره وهو يشدو بقصيدته على فتاة عراقية في العشرينات، شديدة الجمال، جميلة القوام، تلاقت أبصارهما مرات ومرات فوقعت في قلبه، فتعلق بها. سأل عنها، فعلم أنها "بلقيس الراوي"، تعيش في الأعظمية في بيت عريق جميل، يطل على نهر دجلة، فتقدم لخطبتها من أبيها، ولأن العرب لا يزوجون من تغزل في ابنتهم، لم يوافق، فعاد "نزار قبانى" حزينًا إلى إسبانيا حيث كان يعمل في السفارة السورية. ظلت صورة "بلقيس" تداعب خياله ولا تغرب عن باله، لكنه ظل يتبادل معها الرسائل. بعد سبع سنوات عاد إلى العراق ليشارك في المربد الشعري وألقى قصيدة أثارت شجون الحضور، وعلموا أنه يحكى فيها قصة حب عميقة، فتعاطف معه الشعب العراقي بأسره، كان يقول في قصيدته: مرحبًا يا عراقُ، جئت أغنيك وبعضٌ من الغناء بكاءُ مرحبًا، مرحبًا.. أتعرف وجهًا حفرته الأيام والأنواءُ؟ أكل الحب من حشاشة قلبي والبقايا تقاسمتها النساءُ كل أحبابي القدامى نسوني لا نوار تجيب أو عفراءُ فالشفاه المطيبات رمادٌ وخيام الهوى رماها الهواءُ سكن الحزن كالعصافير قلبي فالأسى خمرةٌ وقلبي الإناءُ أنا جرحٌ يمشي على قدميه وخيولي قد هدها الإعياءُ فجراح الحسين بعض جراحي وبصدري من الأسى كربلاءُ وأنا الحزن من زمانٍ صديقي وقليلٌ في عصرنا الأصدقاءُ كيف أحبابنا على ضفة النهر وكيف البساط والندماءُ؟ كان عندي هنا أميرة حبٍ ثم ضاعت أميرتي الحسناءُ أين وجهٌ في الأعظمية حلوٌ لو رأته تغار منه السماءُ؟ نقلت القصة إلى الرئيس العراقي "أحمد حسن البكر"، فتأثر بها فبعث بوزير الشباب الشاعر "شفيق الكمالي" ووكيل وزارة الخارجية، والشاعر "شاذل طاقة"، ليخطباها ل"نزار" من أبيها، عندها وافق والدها فتزوجا عام 1969 ليعيشا أجمل أيام حياتهما. وبعد عشر سنوات من الزواج والترحال قال فيها قصيدة غناها "كاظم الساهر" مطلعها : أشهدُ أن لا امرأة ً أتقنت اللعبة إلا أنتِ واحتملت حماقتي عشرة أعوام كما احتملت واصطبرت على جنوني مثلما صبرت وقلمت أظافري ورتبت دفاتري وأدخلتني روضة الأطفال إلا أنتِ.. ما أن أشرق عام 1981م، وبعد أن استقر ب"نزار" وزوجته المقام في بيروت، حيث كانت "بلقيس" تعمل في السفارة العراقية، حتى كان الخامس عشر من ديسمبر من عام 1981 ودعها "نزار" لتذهب إلى عملها وتصافحا فتعانقا فتفارقا، فذهبت إلى عملها وذهب "نزار" إلى مكتبه بشارع الحمراء، وبعد أن احتسى قهوته سمع صوت انفجار زلزله من رأسه إلى أخمص قدميه، فنطق دون شعور، قائلًا : يا ساتر ياربي.. وما هي إلا دقائق حتى جاءه الخبر ينعي له محبوبته التي قتلت في العملية الإرهابية ومعها 61 من الضحايا، فكتب فيها قصيدة رثاء لم يكتب أطول منها في حياته، ولا أجمل منها في مسيرته الشعرية، من أبياتها: شكرًا لكم.. شكرًا لكم.. فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم أن تشربوا كأسًا على قبر الشهيدة وقصيدتي اغتيلت.. وهل من أمةٍ في الأرض.. - إلا نحن - تغتال القصيدة؟ بلقيس.. كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل بلقيس.. كانت أطول النخلات في أرض العراق كانت إذا تمشي.. ترافقها طواويسٌ.. وتتبعها أيائل.. بلقيس.. يا وجعي.. ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل هل يا ترى.. من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل؟ يا نينوى الخضراء.. يا غجريتي الشقراء.. يا أمواج دجلة.. تلبس في الربيع بساقها أحلى الخلاخل.. قتلوك يا بلقيس.. أية أمةٍ عربيةٍ.. تلك التي تغتال أصوات البلابل؟ رحم الله "بلقيس" وشاعرنا الكبير "نزار قبانى" الذي لا يزال يعيش بيننا بكلماته وعبقريته الفذة التي لم يصل إليها شاعر آخر! أنه هروب إلى واحة مليئة بالحب والإبداع والألم.. قهوتى مع الإبداع أجمل، ومع "نزار قبانى" أمتع.. وتحيا مصر النبيلة التي احتضنت كل العرب مبدعين وغير مبدعين، منذ القرن التاسع عشر ومصر هي الأمان لكل العرب.. وحتى الآن. تحيا مصر.. تحيا مصر.. تحيا مصر!