قال الحكماء: الفقر هو رأس كل بلاء، وقال لقمان لابنه: يا بنى، لم أر شيئا أمر من الفقر، وها هم الفقراء فى هذا الوطن ينتظرون كل يوم زائرًا يحمل لهم البشرى، لكن دون جدوى، إنهم يتوقون للخلاص من الفقر والمهانة على يد رئيس لقب نفسه ب«العادل»، كثيرا ما تفاءلوا فيه بالأمل بعهد جديد، لكن أيضا دون جدوى، إنهم حرافيش هذا الوطن المغلوبون على أمرهم، ضحايا من يحكمون ومن يعارضون، على حساب طموحهم فى لقمة عيش يأكلونها بكرامة، إنهم أصحاب تلك المساحة من الملحق الساخر التى يحررونها برسائلهم، إنها قلوبٌ فِى ضِيَافَةِ الحُزنْ، قلوبٌ أدمَاها الألمُ، وأتعبَها النِسْيان طيلة عهود مضت من التهميش واللامبالاة وعدم الاكتراث بهم وبهمومهم ومعاناتهم، حاولوا تنفس عطر الامل، فما حصدوا سوى الألم من جديد. اكتب هذه المقدمة بعد قراءتى إحدى الرسائل التى وصلتنى من أحد أصدقائى الحرافيش، وأنقلها لكم حرفيا... عزيزى الحرفوش الكبير تعلم -كما يعلم الجميع- أننا مازلنا نعانى تحت مطرقة الفقرِ، ونتجرع أصنافاً مِن العذاب، ورغم الثورة التى سمع بملحمتها العالم فإننا مازلنا نقف على مشارفِ أبوابٍ صدئة، ونستند إلى جدارٍ مهترئ وشربنا كئوس الصبرَ مُراً علقَما، مازلنا هُنا على موعدٍ مع ألمٍ منْ نوعٍ آخر، صفحاتٌنا امتزجتْ برحيقِ أرواحِ الشهداء الموحِشة البَاحثة عَن الأُنسِ، عن الأمل، عن إحساسٍ يمْنعه كبرياءٌ يُقتَلُ كلَ يومٍ على أعتابِ اللامبالاة التى كان يقتلنا ويقتلهم بها نظام سابق. رأينا -ياعزيزى -الشهيد وهو يتلاشى أمامَ القسوة، ويلفظ أنفاسَه الأخيرة أملا فى حياة كريمة لمن سيخلفه فى الميدان، لن أشكو لك ياسيدى عن معاناة شخصية، فلديك من الامثلة الكثير، وأعلم أن مكتبك مكتظ بمثل هذه الرسائل لأمثالى وأمثالك من الحرافيش، يصفون فيها معاناتهم، إلا أننى أرى أن سبب كل تلك المعاناة لأصحاب الرسائل هو الفقر، فالفقر يا سيدى كلمة مقيتة، كريهة، تعافها النفوس، وتشمئز منها القلوب، وهو متفشٍ فى هذا العصر الظالم، عصر الثروات الهائلة والبؤس المذل. فبينما نحن عقب ثورة من المفروض انها تحمل شعار «عيش ..حرية.. عدالة اجتماعية»، إلا اننا مازلنا نجد أناسًا يعيشون فى ترف حياتي، يلعبون بالملايين وتقتلهم التخمة، و نجد آخرين لا يكادون يجدون لقمة العيش، وإن وجدوها تكون بشق الأنفس، يعيشون فى أكواخ من الصفيح، بل فى العراء، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، يمزق أحشاءهم الجوع، ويهدُّهم المرض، يتجرعون مرارة الحاجة، وتغص حلوقهم بذلة السؤال.. إن للفقر يا سيدى أبناءً كثيرين.. وإن له صوتًا يعلو ويرتفع.. وهناك أذن لا تسمع وعين لا تبصر.. فاكتب لهم يا سيدى فى مساحتك التى خصصتها لأمثالنا من حرافيش هذا الوطن كى ينظرون إلينا.. قل لهم انظروا خلف الأبواب واسمعوا صوتَ الفَقْر.. فخلف ابواب الفقر المتهالكة سيجدون أناسا يتسابقون مع الزمن ويقاومون الانهيار، ببريق خافت من الأمل المتوارى خلف طفل ممزقة ثيابه، يسكن معى هنا فى حارة البؤس، خلف ملامح لرجل كهل عاجز عن الحركة، يقبع فى زاوية المنزل ضريرا، وبالقرب منه عكازُ يستخدمه حين يكون قادرا على المشى، فالطفل طفلى والكهل والدى.. وخلف هذا الباب سيدة ابتلاها الله بالصرع، وبين الحين والحين تصاب بنوبة، تارة تكون قوية وتارة ضعيفة، خلف هذه الأبواب أيضا جيران أكثر فقرا، لكنهم يشفقون أحيانا علينا بوجبة واحدة، أما الطبيب فلا يملكون مالا ليطلبوا به العلاج، خلف الأبواب سيدى رجل عاجز له فضلٌ كبيرُ على كثير من المبصرين، فقد علمهم كيف يمسكون القلم، ويقرأون الكتب، هذا العاجز كان يوما من الأيام يُدعى «المعلم»، مع أنه لم يحصل على شهادة، دارت به الحياة حتى ألقت به فى هذه الحارة، يجاور البؤس ويجاورنى بعد أن أصبح بلا مال ولا أولاد، ينتظر الموت الذى يعانده فلا يأتي.. هنا فى هذا البيت دائما ما نرقب الليل صمتا، ونناجيه أن يكف عن تنهيدات الوجع، ونرجوه فى ابتهال أن يشق عباءته لينبلج الصباح بأمل جديد كدنا نفقده.. وفى النهاية عزيزى الحرفوش الكبير، دعنى ألقى إليك بالمودة وأنت تبسط خارطة الجرح أمام القراء، لتوسع من حدود المعاناة، عسى أن يشعر بها هذا الرئيس المنتخب وإخوانه فى مكتب الإرشاد، فيستحون من أنفسهم، يستحون من أطفالنا وهم يتضورن جوعا، ونسكِّتهم بفرج قريب، فرج سيأتى مع رجل غنى، سيأتى وسيقدم لكم العطاء والطعام فى رمضان، سيقدم زجاجات الزيت وأكياس السكر، لكن رمضان يا سيدى لا يأتى إلا مرة واحدة فى العام، فهل حكم علينا الإخوان أن نعيش شهرا واحدا فى العام ونموت باقى الشهور، أهذا هو الحكم بشريعة المتأسلمين ؟! الآن انتهت رسالتى ياسيدى.. وانتهى وقوفى على أبواب جريدتكم.. اقتحم الخيالُ لأنتقى كلمات تروق للقراء.. ليعلموا أننا مازلنا أحياء ننغص عليهم عيشتهم.. فمتى يقتلوننا أو حتى يبيدوننا بأى مبيد.. فالمسرطنات تملأ الأسواق منذ عهود، لكننا مازلنا نعيش !! هذه الحلقة كتبها أبو يكح الجوسقى فى يونيو 2011 بعد شهور معدودة على ثورة 25 يناير .. والمثير أن الكثير مما كتبه قد تحقق..