بعد 65 عامًا على "النكبة" التى راح ضحيتها وطن بأكمله تبدو الحاجة جلية لتأمل جذور الثقافة التى انتجت هذه النكبة في فلسطين ومازالت تفرز المزيد من الجرائم والدماء المسفوكة. وواقع الحال أن الفكر السياسي العربي لم يتقدم كثيرًا على مدى 65 عامًا وبخاصة في جانبه "الحاكم الرسمي" لفهم المعنى العمبق الذي تقوم عليه إسرائيل تاريخيا وثقافيا وعقائديا فهي وإن كانت لاتزال دولة مغتصبة وعدوانية تحظى بدعم الغرب فإنه من الصحيح أيضا القول بأن هذا الوصف الخارجي لايقدم معرفة كاملة. وكثيرا مايبدو كما لو الطرف الضحية أي العرب غير راغب في معرفة جذور النكبة ومن هنا فمنذ عام 1948 لم يفعل هذا الطرف في أغلب الأحوال سوى مايزيد إسرائيل قوة أو يمنحها الذريعة لتزداد قوة وهيمنة وباسم "القضاء على إسرائيل" اعتدت أنظمة استبدادية عربية بأبشع ألوان العدوان على شعوبها دون أن تحرر شبرا واحدا من فلسطين!. ومنذ النكبة الأولى توالت نكبات ونكبات لتعيش الأجيال العربية في أوضاع مزرية من الفقر والشقاء اليومي والتشرد بين أصقاع الأرض هروبا من البطالة في أوطانها ووئدت الحريات وحقوق الانسان "باسم النضال ضد إسرائيل والاستعمار". وعلى الجانب الآخر رأى المحلل النفسي الأشهر سيجموند فرويد وهو منحدر من عائلة يهودية في النمسا أن المكون الأساسي للشخصية اليهودية يتمثل في اعتقاد اليهود على نحو كامل ومطلق بأنهم "شعب اختاره الله بين البشر جميعا ليكونوا شعبه المختار". وهذا الاعتقاد الذي ناقشه فرويد بصورة مفصلة في كتابه "موسى والتوحيد"، معتبرا أنه "يشكل ظاهرة فريدة في تاريخ الأديان" جعل الإسرائيليين حتى اليوم يؤمنون على نحو مطلق بأن "الحقيقة ملك لهم وحدهم ولا حق خارج ما يرون وما يفعلون حتى لو كان عدوانا غاشما على أقدس مقدسات الآخرين كما يحدث الآن في المسجد الأقصى". وكان مجلس الشورى المصري قد دعا بصورة تكاد تصل للإجماع إلى طرد السفير الإسرائيلي احتجاجا على العدوان الاسرائيلي الغاشم على المسجد الأقصى مؤخرا، فيما اعلن رئيس المجلس الدكتور احمد فهمي أن هذا الطلب يعبر عن نبض الشعب المصري. وفي المقابل تتواصل الدعوات الاسرائيلية المتطرفة لاقتحام المسجد الأقصى وآخرها دعوة لاقتحام المسجد صباح غد "الخميس" بغية الاحتفال حسب زعمهم "بعيد نزول التوراة داخل جبل الهيكل"، فيما تضرب جذور هذا الفكر المتطرف في ثقافة تؤمن بأن هجومهم على اعدائهم هو "هجوم الهي من دولة تجسد ارادة السماء على الأرض" وبصورة تفسر الكثير من الجرائم الدموية والوحشية الاسرائيلية منذ النكبة الأولى في فلسطين. ولعل خطورة هذا النوع من الثقافة أنه لايجعل مسألة الاعتقاد بهذا الاختيار الالهي مجرد إيمان خالص ينحصر بين الانسان وخالقه وهو ما يمكن تفهمه وقبوله في سياق حق الانسان في الايمان الحر وإنما الأمر يتعدى ذلك كله ويتخطاه إلى العمل والممارسة فتبنى عليه دولة ويؤسس باسمه جيش ونظام وتبنى علاقات غير طبيعية بين الثقافات بينما يوصم فرويد اليهودي من المتطرفين اليهود بتهمة "اللاسامية" بأثر رجعي!. واللافت أن مذابح النكبة لم تدفع رغم كل دمويتها الثقافة الغربية لاصدار كتاب على مستوى هذا الحدث الجلل والذى يشكل عدوانا لاريب فيه على الجوهر الانسانى إينما كان، فيما تبدو المذابح التي تعرض لها الفلسطينيون والعرب على يد إسرائيل الملطخة بالدم حاضرة أبدا ضمن تراكمات غضب الشارع العربى الذى انفجر فى ثورات وانتفاضات ضد الانظمة الاستبدادية الفاسدة . وفى كتاب جديد صدر بالانجليزية بعنوان :"يوميات الاحتلال"، لم المؤلف الفلسطينى رجاء شحادة رؤيته الغاضبة والآسيانة لحال وطنه فى ظل الاحتلال الاسرائيلى حيث المستعمرات اليهودية تتخلل ثنايا المشهد فى الضفة الغربية والطرق الالتفافية تفصل الفلسطينيين عن اراضيهم. ويقول جوناثان هيود فى صحيفة "ذى اوبزرفر" البريطانية إن رجاء شحادة قدم فى هذا الكتاب الذى يغطى بيومياته الفترة من عام 2009 وحتى عام 2011 رؤية تجمع مابين الغضب والجمال ووصف المؤلف بأنه "رجل غاضب ومع ذلك فهو تأملى النزعة يكتب ببساطة وجمال رائعين". إنه كائن معذب وغاضب ومقاوم على طريقته تماما مثل "حنظلة" الغاضب - المقاوم الفلسطينى العربى الأشهر فى تاريخ الكاريكاتير كما ابتدعه الفنان الراحل ناجى العلى الذى أبكى عشاق فنه بشخصيته الطفولية الخالدة "حنظلة" بيديه المعقودتين خلف ظهره فى تناوله للمذابح التي تعرض لها الفلسطينيون والعرب ليدين مع شخصيته الكاريكاتورية الأخرى "فاطمة" وبلسان الشارع العربى المرحلة بأكملها. وإذا كان المحامى والناشط الحقوقى الفلسطينى رجاء شحادة غاضبا فى كتابه الجديد الصادر فى لندن حيال احجام حلفاء إسرائيل ومانحيها عن التحرك لمنع التمييز ضد الفلسطينيين فقد تناول فى كتاب سابق صدر بالانجليزية أيضا بعنوان :"مشاوير فلسطينية" وحصل به على جائزة "اورويل" البريطانية لأفضل كتاب سياسي فى عام 2008 دور الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة فى مساعدة إسرائيل على تحدى قرارات الأممالمتحدة. ولعل تقييم ردود المجتمعات الغربية ومواقفها حيال مذابح صبرا وشاتيلا يكشف عن مواقف لاتختلف كثيرا حيال مذابح أخرى عناوينها عربية مثل :"دير ياسين وكفر قاسم" فى فلسطين و"بحر البقر" فى مصر و "قانا" فى لبنان والفلوجة العراقية. فثقافة الاستعلاء الدموى التى أبادت الهنود الحمر وأسقطت ملايين الضحايا للحروب الاستعمارية فى آسيا وافريقيا وأشعلت حربين عالميتين فى القرن المنصرم وهى ذاتها الثقافة التى تؤازر من منطلقات ايديولوجية ونفسية وعوامل مصلحية الاحتلال الاسرائيلى للأرض العربية الفلسطينية وتهويدها . فهذه الثقافة هى وجه آخر لثقافة الابادة المستمدة من "فكرة إسرائيل التاريخية" التى قامت عليها أمريكا ذاتها وهى فكرة "احتلال أرض الغير واستبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ"، ليصبح صاحب الأرض غريبا فى أرضه بملامح نفسية شرحها رجاء شحادة فى كتاب بالانجليزية منذ عقد كامل عنوانه :"غرباء فى البيت" . وحتى تتحقق رؤية مثقف فلسطينى مثل رجاء شحادة فى أن كل ما يقيمه الاحتلال إلى زوال يوما ما كما زال كل احتلال من قبل فى التاريخ سيبقى الغضب وجرح الكبرياء وجمرات القضية ووجع الظلومية التاريخية وذاكرة النكبة ومقاومة استبداد الداخل وعدوان الخارج. 65 عامًا على النكبة ومازالت ثقافة الاستعلاء الدموى مستمرة ومازال "حنظلة" يقاوم ولم ولن يستسلم.