كآبة عنكبوتية تنسج خيوطها السوداء على مدخل المكتب القبرى، الذى يجلس خلفه أشهر خائن فى التاريخ، لا أنكر أن هناك حالة من الغثيان تملكتنى فور رؤية يهوذا الأسخريوطى، تلميذ السيد المسيح الذى باعه ب30 درهمًا من الفضة، أى 3.5 جنيهات الآن. ذهبت إلى هذا الخائن الذى ليس له عزيز فى ذكرى اتفاقه الآثم على بيع المسيح، على كل حال نظرت فى أوراقى هاربًا من رؤية لوثة الخيانة الغائمة فى عينى يهوذا، وتجنبت أيضا النظر إلى فمه حيث يتراقص لسانه كثعبان شرس، كيف احتمل المسيح تقبيل هذه الشفاه المسمومة والمنفوخة بدماء الكذب لخده الرقيق ؟ طال صمتى فوجدته يصدر صوتا موحشا، ولذلك بدأت الأسئلة . نريد تعريفًا لشخصك ؟ -اسمى يهوذا سمعان الأسخريوطى، ولدت فى قرية ( قريوت) جنوب اليهودية، وأنا الوحيد من بين تلاميذ المسيح الذى كنت من منطقة اليهودية لأنهم كانوا من منطقة الجليل، كنت مسئولا عن أمانة الصندوق، حيث كانت الأموال والتبرعات التى تقدم للمسيح وتلاميذه تحت يدى. «أمين الصندوق».. هل لمهارة فى الحساب أم حبا للمال ؟ - لا بل عشقًا للأموال فللدراهم رنين عندما يمس القلب، فلا فرح ولا شهوة ولا شىء أهم وأحلى وأعظم من هذا الرنين، الذى يخلب العقل ويشل الضمير، بل يبنى فوق لسانه سدًا من الفضة المذابة، فيموت خلف السبيكة. ولماذا انضممت لحواريى المسيح ؟ - انجذبت لدعوته وسرت خلفه، لكى اجعله يسير خلفى، فالمسيح كنت اريده – وكما كان كل يهودى يريده – بطلا وملكا ومحاربا، يحررنا من حكم الرومان الطغاة، ويعيد مجد مملكة داود وسليمان، ولكن لم يكن هذا هو هدف المسيح، كان يقول كلامًا غريبا لا أفهمه مثل إن مملكتى ليست من هذا العالم، وتعاليمه المثالية عن محبة الأعداء ومباركة المسيئين، لقد حطم حلمى تمامًا، وأغرقنى فى متاهات، وفشلت بالفعل فى أن أجعله يسير خلف مفاهيمى اليهودية، ولم أستطع فى داخلى أن أسير خلفه، فهذا لم يكن المسيح الذى أنتظره. ولماذا بقيت إذن ولم تتركه مثل كثيرين من الذين انضموا لمسيرته ثم تركوه بكامل إراداتهم ؟ - أمانة الصندوق، هى التى جعلتنى أظل بين التلاميذ أتظاهر بالورع والطاعة، وفى داخلى بركان رافض هذه التعاليم وتلك الأفكار المثالية التى لا تروق لأمثالى الذين جبلوا على حب الدنيا. وهل أموال الصندوق كانت تستحق هذا البقاء ؟ - لم تكن لى مهنة تكفل معيشتى، والصندوق كان فارغًا معظم الوقت، والملاليم التى كانت تأتى، من أسباب سخطى أيضا على المسيح، فهو كان طوال الوقت يبحث عن الفقراء والمساكين وأصحاب البلايا والمرضى والعجزة والعميان وأمثالهم ممن لا يملكون شيئا، لذلك كان أى تبرع ولو صغير يأتى أقتنص بعضه لنفسى، المسيح كان يفضح باستمرار الفريسين والكهنة وغيرهم من أثرياء اليهود، بالتالى هؤلاء لم يقدموا لنا درهما بل كان يقول: «ما أصعب دخول الأغنياء ملكوت السماوات»، إذن بقيت أبحث عن ملاليم أستطيع أن أقتنصها وأنتظر أن تأتى الفرصة. لهذا كانت غضبتك حقيقية على زجاجة الطيب التى سكبتها امرأة على المسيح تكريما له ؟ - لا تذكرنى، فهذه الزجاجة كانت من عطر الناردين، الغالى والنادر، وغضبت لهذا التبذير وتحججت بأنه كان يمكن بيع ثمنها وتوزيعه على الفقراء. مجرد حجة ؟ - طبعا، أنا أكلمك بصراحة، كنت أتمنى أن أحصل على ثمن الزجاجة، وأخفيه لنفسى، أو أسكب نقطتين منها على جسد زوجتى وأبيع الباقى. بالمناسبة هل كانت زوجتك توافقك على أفعالك ؟ - لم تكن تسأل من أين ولا كيف أجلب المال، ولكنها كانت لا ترفض المال، وكانت مثلى لا تقتنع بتعاليم المسيح ولا عظاته المثالية. ولكن ألم تتأثر يوما بكلمات المسيح عن المحبة، ألم تسمع صوته الوديع فى قلبك، ألم تترك فيك أعمال الرحمة وجولات الخير التى كان يقوم بها أى أثر ؟ - هدفى لم يكن كلامه، بل أثر كلامه فى زيادة التبرعات، أو جذب واحد من الأغنياء له فترن الدراهم فى الصندوق الذى أحمله فى قلبى ولا مكان لغيره عندى. والمعجزات ؟ - طبعا انبهرت بها جدا، مثلى مثل آلاف كانوا يرونها، بل بعضهم حدثت معهم معجزات، ثم انقلبوا عليه وساعدوا فى التخلص منه، ولكن الانبهار ينتهى مع الاعتياد. هل دخلك الشيطان حقا ؟ - أنا أؤمن بحرية الاختيار، وقد أخذت فرصتى كاملة، وحتى عندما نبهنى المسيح بأنه يعرف تآمرى عليه لتسليمه لليهود لم أتراجع، لقد اتفقت على أن أبيعه ب30 درهمًا من الفضة وهذا اختيارى الكامل، لم يمكننى حملى للصندوق طوال 3 سنوات من امتلاك هذا المبلغ، لم يجعلنى المسيح غنيا، فى الوقت الذى يستطيع فيه أن يفعل رؤساء اليهود بصرة واحدة ذلك، لم يقد الحرب ضد الرومان ويجعلنى ثائرًا أو قائدًا للجيش، لكى أكون وزيرا أو حاكمًا فى المستقبل، لم يكن المسيح الذى أريده، فلماذا لا أبيعه وأربح من ثمنه، هذه كانت أفكارى وقناعتى، لذلك عندما جاءتنى الفرصة انتهزتها على الفور، وبلا تردد، ولا شأن لى بالشيطان. لقد غسل قدمك مع باقى التلاميذ قبل أن تسلمه بدقائق؟ - غسل قدمى، وأنا قبلته فى خده. لماذا اخترت القبلة لتكون رمزا للخيانة ؟ - أصعب كذبة لا تفتضح هى التى تحتوى على نصف حقيقة، وكنت أظن أن استخدام شكل من أشكال الحب سوف لا يكشف خيانتى. ماذا تبقى فى فمك من طعم قبلة خد المسيح ؟ - المرارة التى قادتنى للانتحار. حقا لماذا انتحرت ؟ - نهاية أى خيانة، الانتحار.. لقد حاصرتنى براءة المسيح، وصدقه للنفس الأخير والحبل كان ملفوفًا من فتائل خانقة خيوطها احتقارى لنفسى، شفتاى المسمومة امتدت إلى خده الطاهر، فقدمه لى بحب وصدق، لقد انفجرت شفتاى فى دمى. لمن ترمى الحبل الذى انتحرت به ؟ - لكل من قتل وباع دماء الشهداء فى كل زمان ومكان مثل من ؟ - الإخوان الذين يحكمونكم الآن، فهم أشطر منى بكثير، لقد قبضوا ثمن الوصول للسلطة، وفى سبيل ذلك باعوا دماءً كثيرة، بدءا من الخازندار والنقراشى وصولا لشهداء 25 يناير الذين اخذوا يقبلونهم – نفس قبلتى – ويهللون لهم وشهداء محمد محمود وماسبيرو، وباعوا دماء شهداء رفح الأبرياء الذين كانوا صائمين، فهم إذ كانوا قد نموا داخل عباءتى وهى عباءة فضفاضة يتعلق بها كل من سار فى طريق الخيانة، وادعوا التدين مثلى وساروا على دربى، وعندما جاءتهم الفرصة انتهزوها بلا تردد، وباعوا كل دماء الأبرياء. وكيف ترى نهايتهم ؟ - بنفس الحبل.. لقد بدأ بالفعل انتحارهم السياسى، ودماء الأبرياء سوف تظل تصرخ للسماء تطلب الرحمة والعدل، هذه الدماء قوية وقادرة على انتزاع أى سلطان، مهما كان الخائن شاطرًا وبلطجيًا ومكتنًا فسوف ينتحر عريانًا.