في هذا الضياء الواسع، رجلٌ أضربَ عن اليأس، ووزعَ المحبة على العابرين. القلبُ المُتأهب للرّحيل، لم تردعه الصدمات الكهربائية عن الغناء الصالح للحياة. في الغرف الصغيرة الضيقة، جمع الكتب والرفاق والأمل المستفيض، كما لو أنه مسودة وطن. إله الظل، ونشيد البراءة، الذي استقر بين شوائب الأجيال مثل ومضةٍ هاربة إلى المستحيل. لا وجه على الفضائيات، ولا اسم على الكتب، لكنه انخطافُ البرق حين تنشدُ الألق. زاهدٌ وسط الشراهة وحريق الأيام الزاعقة، إذ يفارق الزمن ويمضي بخُطىً متباطئة إلى الحدائق التي تلتمع فيها الألوان مع الصمت. يُنصِتُ إلى الريح وصلصلة القيود وتهدُّج الرثاء، ثم يجفف روافدَ الدمع التي تكاد تغافل وحِدتَه الطويلة. دعوا قاربه هائمًا بلا اسمٍ ولا شراع، فالمرافئ كلها في الانتظار، وابن الدلتا يعرف طراوة البحر المجلّل بالظلمة، ويتقن تنويم الموج والعاصفة. يُمشِّط الحكايات، والأحلامَ المشدوهة والصداقات التي تتأكسد، ويختار عزلته الحميمة. يربي بين جوانحه قطرات الندى، فلا يكبر، ولا يغضب من السماوات التي استولى عليها الأفق. نهرٌ وادع الانسياب، يتمدد في شرايين الأيام، حارسًا للقلب المُتعَب من تقلبات الخريف. كلما أصابه جرحٌ، نزع عن جسده الضماد.. ورسم ابتسامته المقدسة. حبره الأسود لم يجف، والمطابع تنتظر. لا بدَّ أن مكتبته تمتلئ بالدموع. في المنوفية يهيئ الحقولَ للحصاد، مثل محراثٍ وفيّ، يهشُ الأرضَ والغيوم. رصاصُ اليُتم أصابَ براءته. عاينَ الجزع الذي يحرق العينين، لكنه دس في صندوق بريدِ الريح رسالةً، ونظرة تؤجج الهواء، ومضى على الدرب بلا توقف. في قرية "الراهب" مركز شبين الكوم، يحارب فيلقًا من ظلال، ويرفع راية الزمالك، حتى وإن أصابته شظايا الخسارة، واجه رجالًا معتمين أصابتهم لوثات الجنون والتعصب الكروي، إلا خاله العطوف، الذي أهداه معطف الانتماء. يعثرُ في الأحجار التي تُدمي ركبتيه، لكنه يتخفف من اللعنات العميقة، وييمم وجهه شطر المدن التي كفَّنها الدخان. ها هو العائد، الناسك، الصبور، يشن حربًا على سرطان العامية في صحافةٍ باتت تُحتضّر. بلا أبناء يلصق عليهم اسمه، لكن له ورثةً لا يراهم، ينامون على ياسمين كتفيه، وهو: قيثارةٌ تتأوه، وتتخفى وراء المرايا المتصدعة. يخبز الحرمان في أفران السعادة، مصحوبًا براحة الضمير ونعمة السكينة. في زيجته الثالثة، وجد كنز الوداد تحت شجرة الأيام الزائدة. عبر بخفةٍ إلى المستقبل، فلم يجتر مرارة الطلاق ومنغصات الفراق. سماحتُه أحالت طمي المرارة عسلًا، وهو حنانٌ يرتعش. الآن يدرك أن طريق الانكسارات مفروش بحُسن النية، وأن الوقت نحاتٌ ضرير. بلا كراهية أو ضغينة، يُقطِّر الزمن من خيانة المرايا والضحكات المدانة وحفلات الجنون، ويستغفر الله من كل مطرٍ ذليل.. يتذكّر ثم يتنكّر. عماد صبحي، الذي يوقد شموع الرجاء، لديه حُلمٌ بعيد، وعينان تسكبان الرؤى، ورائحة هذي البلاد.