على أرض النوبة لا يوجد بيت يخلو من الغناء فالموسيقى روح أهلها، والحنين إلى أرض الدهب واقع يحيطه الخيال، من بين ضلوعها خرج إلى العالم أصوات تشدو كلمات وألحانًا ذهبية، فكان منيب ومنير وجزولى وأبو جريشة. بين منيب ومنير وجوه كثيرة قدمت نفسها للوسط الفنى برداء نوبى لكن يظل «أحمد منيب» الأب الروحى لكل مطربى النوبة، حيث ولد في 4 يناير عام 1926، وكانت بداياته عام 1954 مع إنشاء إذاعة وادى النيل والذي قدم فيها عبد الفتاح والى العديد من الأغانى التراثية النوبية، ليمثل تجربة رائدة كرمز للفن النوبي؛ كونه أول من عزف على العود هناك. وبعد افتتاح الرئيس جمال عبد الناصر لإذاعة وادى النيل، كتب منيب وصديقه عبد الفتاح والى لعبد الناصر إتاحة الغناء باللغة النوبية كتأكيد على مصرية النوبة، فوافق لهما على ذلك، وكان الغناء باللغة النوبية لأول مرة في الإذاعة المصرية. رحل منيب في 1991، تاركًا خلفه 85 لحنًا، فغنى له عمرو دياب، ومحمد فؤاد، وغيرهما، لكن مع أكثر من 45 أغنية لحنها لمنير، تأكدت تلك الرابطة بينهما، وكونه الأب الروحى له بالفعل. ومن «منيب» الأب إلى محمد منير «الكينج» خرج إلى العالمية صوت مصرى نوبى جديد، حيث ولد منير في 10 أكتوبر 1954، وعمل على خلق شكل جديد من الغناء حافظ فيه على هويته النوبية وخلط فيه الجاز بالسلم الخماسى النوبي، وكلمات أغانيه العميقة، وأسلوب أدائه ومظهره غير الملتزم بتقاليد الطرب والمطربين، وبخاصة شعره النامى المفلفل بفوضى وطريقة إمساكه بالميكروفون ووقوفه وحركاته العصبية الغريبة أثناء الغناء، ومنير أيضا ممثل ودفّاف. بحور جزولى وأبو جريشة بمجرد الاقتراب من النوبة، تهتز المنطقة برمتها بصوت كروان يشدو ويطرب بصوته الشجى وأدائه الذي واكب كل الأجيال، ببساطة إنه «حسن جزولى» الذي ولد في 5 أبريل 1936 بالنوبة القديمة بقرية قورتة مركز عنيبة في أسوان، ونزح إلى القاهرة صغيرًا وعمل بها كمعظم أبناء النوبة الذين تأثرت أسرهم سلبا إثر بناء خزان أسوان عام 1902. تقلد جزولى في عدة وظائف بالقاهرةوأسوان، وسافر للسعودية والكويت حتى عاد إلى مصر وعاود نشاطه الفني، ليشتهر بأحلى الأغانى النوبية منها: «ارمنا ووه سمرا الساقية»، وزامله كثير من الشعراء والملحنين، منهم عبده مرغنى والفنان الراحل شعبان عوض، وتوفى في 10 أغسطس2004، ودفن ببلدته الحبيبه قورتة بالنوبة. أما بحر أبو جرشة فتميز بصوت شجى من أصول نوبية، رحلت عائلته بعد التهجير من النوبة، ويقال إنه ولد في الإسكندرية، وعاش فيها أغلب حياته، حيث تميز بجمال الصوت والأغانى المرهفة الشعبية والرومانسية والحزينة والتي مثلت عند جمهوره أيقونة الفن الشعبى المتميز. لا يختلف اثنان على أن «على كوبانا» شخصية كاملة الموهبة، وهو المولود عام 1929 بقرية قورته بالنوبة القديمة لوالد كان يعمل بالتجارة، وكان والده محبا للغناء فأخذ عنه حب الغناء، وحضر على كوبانا إلى القاهرة عام 1944، فالتحق بمدرسة الناصرية الابتدائية بحى معروف. كانت بداية بأحد الأفراح ليغنى بعض الأغانى القومية لينال بها استحسان وإعجاب الحضور، فشجعه ذلك للعمل في مجال الغناء النوبي، فترك دراسته والتحق بالكشافة النوبية بعابدين عام 1947 وفيها تعلم أصول الموسيقى خاصة موسيقى الغرب والعزف على آله الكلارينيت وغنى كثيرا في حفلات الكشافة. في عام 1988 حضر وفد من الموسيقيين الألمان المهتمين بالموسيقى والغناء ليتعاقدوا معه لإحياء عدة حفلات بألمانيا، كما عرض عليه الاتحاد الدولى للمهرجانات المشاركة في مهرجان برلين الدولى عام 1989، وقد حصل فيه كوبانا على المركز الأول، وفى نفس العام حصل على عضوية اتحاد الموسيقيين الدوليين ببرلين، وفى عام 1990 شارك في مهرجان السياسة في ألمانيا وحصل فيه أيضا على المركز الأول وأقامت له السفارة المصرية بألمانيا وقتها حفلا كبيرا. ثم يأتى في القائمة، «خضر العطار» أحد أشهر مغنيى النوبة، فلا يمر فرح نوبى دون أغانيه، إلا أن سماع البعض عنه فقط كان مع نشر خبر وفاته في آخر مايو الماضي. وتعد أغنية «فخور أنا» واحدة من أبرز الأغانى التي اشتهر بها العطار، وفيها يغنى «عِزة نفسى ما تزول، اسألوا التاريخ والماضى مين أنا.. أنا ابن مينا وترهاقا، أنا ابن كوش ونباتا، أصل بطبعى نوبى أنا فخور أنا بحضارتي». رجب سيد «ابن الدار» وكأن الموهبة تجرى في عروقه، فلم يكتف ابن قرية «الدار» التابعة لمركز نصر النوبة بصوته المميز منذ الصغر، بل تمسك الفنان رجب سيد محمد بدراسة التربية الفنية، ليتخرج في تلك الكلية عام 1982، ويصبح عضوا بنقابة الفنانين التشكليين، ثم أحد الفنانين الموهوبين والمميزين بأسوان، ومثل مصر في العديد من المحافل الدولية، ويتولى حاليا رئيس قسم العرض المتحفى بالمتحف النوبى. 26 عاما أشغال يدوية الرجال لم ينفردوا بالمواهب الإبداعية، بل زاحمتهم النوبيات أيضا، فالحاجة «روحية يوسف صيام» ابنة قرية غرب أسوان النوبية من السيدات اللاتى استطعن تنمية مجال المشغولات اليدوية على مدى 26 عامًا، وشاركت في العديد من المعارض والمسابقات التي وصلت بالمنتجات النوبية إلى العالمية. «روحية» قالت إنها «بدأت تنمية موهبتها في المشغولات اليدوية التي ورثتها عن والدتها وجدتها منذ نحو 26 عامًا، وتعلمت جميع أنواع المشغولات. وأضافت أنها «شاركت في العديد من المعارض التي تنظم في المناسبات والاحتفالات، وفى قصور الثقافة، والجمعيات الأهلية، وحصلت على العديد من الجوائز في مسابقات متنوعة». وأوضحت «روحية» أنها أصبحت من رائدات مجال المشغولات اليدوية، وتطلب في الجمعيات والمؤسسات لتدريب الفتيات، وتحرص على تعليم بنات عائلتها وقريتها حتى لا تندثر تلك الحرف التي تمييز بلاد النوبة، حفاظًا على التراث التي تعلمته من الأجداد.