سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بالفيديو.. في ذكرى ميلاد داوود عبد السيد.. «ثلاثية يحيى» في سينما «العبقري».. أحمد زكي يجسد الخروج من الجنة في «أرض الخوف».. وآسر ياسين يعيش أسطورة إغريقية في رسائل البحر
اسم المخرج داوود عبد السيد، له مهابة واحترام إذا جاء ذكره، حتى هؤلاء الذين لا يحبون السينما ولا يفهمون عالمها، يحترمونه، ويقدرونه، يقولون إنه مخرج كبير وعبقري، على الرغم من قلة أعماله التي بلغت حتى هذه اللحظة 9 أفلام فقط. ولا مبالغة إذا قلنا إن المخرج داوود عبد السيد، لن يتكرر في تاريخ السينما العربية؛ لأنه رجل يمثّل حالة خاصة واستثنائية، فهو لا يخرج فقط، بل يُنشد، ولا يؤلف حكايات فقط، بل يخلق عوالم أخرى مهمومة بوجود الإنسان على الأرض، مهمومة بصراعاته وقلقه وعجزه ومعاناته وبحثه الدائم عن سر وجوده في هذه الدنيا. ولأن «داوود»" يبلغ اليوم عامه السبعين، حاولت «فيتو» أن تجيب عن سؤال واحد في هذه المناسبة: "لماذا داوود عبد السيد عبقري؟" أرض الخوف لا يعتبر هذا الفيلم من الأفلام المفضلة لدى الجمهور للفنان أحمد زكي، هم يفضلون أفلامه مع المخرج الراحل عاطف الطيب، نظرًا لواقعيتها المباشرة، أما "أرض الخوف" كان فيلما فاشلا جماهيريا، لأن الجمهور المصري لا يمكنه أن يتذوق هذه النوعية من السينما، التي تحمل فكرة خطيرة وقضية إيمانية كبرى، ألا وهي "خروج الإنسان من الجنة إلى الأرض وعجزه عن التواصل مع القوة العليا. في هذا الفيلم حدوتة بسيطة، حيث يتم تكليف الضابط يحيى المنقباوي "أحمد زكي" بمهمة رسمية سرية لا يعرفها سوى مدير المخابرات ومساعد وزير الداخلية، المهمة هي أنه يعيش كتاجر مخدرات ويقوم بإرسال كل ما يحصل عليه من معلومات إليهم، ويوافق بالفعل "يحيى" إلا أنه يكتشف فيما بعد أن رسائله التي كان يرسلها إلى قياداته لا تصل ولا يقرأها أحد. لكن هذه الحدوتة ليست بهذه البساطة، بل بها إسقاطات عديدة، كانت متواجدة في كل لحظة وكل مشهد بالفيلم، الذي كانت تصاحبه دائما موسيقى "راجح داوود" التي جسدت حيرة وقلق وغموض وجود الإنسان على الأرض. نجد مثلا في مشهد يجمع "يحيى المنقباوي" ومساعد وزير الداخلية، محاولة الأخير في إقناعه بأن يقبل المهمة السرية، ثم نسمع في خلفية المشهد السمعية والبصرية، مؤثرات البرق والرعد مع الموسيقى التي تعمق فلسفة المشهد، الذي حاول من خلاله داوود عبد السيد، أن يجعل الطبيعة تتعاطف مع المأساة التي ينتظرها "يحيى" بمجرد قبوله للمهمة ونزوله إلى "أرض الخوف"، عالم الشر والقتل والطمع والفساد. ويكشف مساعد وزير الداخلية له، أن اسمه الحركي سوف يصبح "آدم"، ثم يركز "داوود" في النهاية بالكاميرا على طبق من التفاح، يأخذ منه "يحيى" واحدة ثم يأكلها، وكانت هذه إشارة بموافقته على المهمة، مثله مثل النبي آدم الذي أكل التفاحة وكانت هذه التفاحة سببا في طرده من الجنة ونزوله إلى الأرض. يستمر "داوود" في هذا العمل في تعميق مأساة هذا الإنسان، الذي يصبح معلقا بين السماء والأرض، خاصة بعد إقالة رؤسائه الذين يعلمون وحدهم طبيعة مهمته، لكن أحدا لا يصدقه ولا يشعر به، فهو يبعث برسائله كما كان متفقا عليه، إلا أنه لا يتلقى استجابة، لدرجة أنه شك في نفسه وبدأ يسأل: "هو أنا ضابط فعلا ولا تاجر مخدرات"، وبدأ ينعدم اليقين بداخله. يمتلك داوود عبد السيد، قدرة غريبة تجعل الكاميرا تنطق وتتكلم، فالذي شاهد فيلمه "الكيت كات" مثلا، سيشم روائح هذه الحارة الضيقة في إمبابة التي جسدت ملحمة إنسانية كبرى عن عجز الإنسان الذي يصر على المكابرة في أنه ليس عاجزا، فأيضا تجلى ذلك في حركة الكاميرا في "أرض الخوف" عندما قتل "يحيى" عددا من أفراد العصابة، حيث ارتفعت الكاميرا وكانت اللقطة من أعلى، كأن هناك عينا عليا في السماء تشهد على هذه الجريمة التي ارتكبها، فهنا استعان "داوود" بعدسة الكاميرا لتقول شيئا بدلا من أن يقولها على لسان البطل أو الراوي أو أي شخصية بالعمل. رسائل البحر البطل في هذا الفيلم اسمه "يحيى" أيضا، والذي قام بالدور كان الفنان آسر ياسين، ويتشابه الضابط "يحيى" في "أرض الخوف" مع الطبيب "يحيى" في رسائل البحر، فالأول وحيد في عالم ليس عالمه، اضطر النزول إليه في مهمة رسمية سرية، وعاجز عن التواصل مع أي أحد ولا يستطيع أن يبوح بسره لأي إنسان، أما الثاني، فهو طبيب متلعثم في طريقة خطابه، عاجز عن توصيل أفكاره للعالم الذي يعيش فيه، ككل أبطال أفلام داوود الذين يعيشون في غربة، لكن السلطة العليا في هذا الفيلم -وهي "البحر"-، تستجيب له برسالة مطوية في زجاجة، يفتحها ويقرأها، إلا أنها تحتوى على كلمات غريبة لا يفهمها. وكي يفهم المشاهد فكرة فيلم "رسائل البحر" لا بد أن يعود إلى الأساطير الإغريقية، فالبحر هنا مباشر وصريح بأنه يرمز إلى القوة الكونية الكبرى أو إله البحر عند الإغريق والذي كان يسمّى "بوسيدون". يقف الطبيب "يحيى" عاجزا أمام البحر في أجمل المشاهد قائلا: "جيت لك وأنا مش محتاج وإديتني رزقي، ودلوقتي وأنا جعان بتحرمني.. ده ظلم ده ولاَّ فوضى". فعندما يعجز الإنسان عن التواصل مع هذا العالم، ويشعر بغموض وضعه في هذه الحياة ينفعل ويثور ويصبح كالمجنون، وهو نفس ما فعله الضابط يحيى في "أرض الخوف" عندما ثار في ساعي البريد "موسى" الذي كان مجرد وسيط ورسول يتلقى رسائله بالخطأ، قائلا: "أنا عاوز أعرف أنا مين.. سلّم كل الرسايل لمكتب مكافحة المخدرات وفهمهم كل حاجة". ويتميز "داوود" بأنه ينظر للحب بأنه قوة ساحرة، فعندما يطرد الطبيب يحيى مع صديقته، يهربان سويا إلى قارب صغير في البحر، ورغم سواد المشهد على البحر وطفو السمك الميت على المياه، إلا أن هذا كله يختفي مع تبادل مشاعر الحب بين "يحيى" و"نورا"، حتى أنه أصبح في أحد المشاهد يتحدث معها بطريقة عادية بلا تلعثم، كأن "داوود" يقول إن الحب هو الشيء الوحيد الذي يجعل الإنسان ينتصر على ضياعه وقلقه وحيرته وعجزه وخوفه. قدرات غير عادية قام بدور "يحيى" هنا هو الفنان خالد أبو النجا، وهو لا يختلف كثيرا عن "يحيى" في أرض الخوف أو رسائل البحر، فجميعم فشلوا في مهنتهم الأساسية، الأول كان ضابطا وتركها قبل تجنيده من قبل المخابرات، بعد قضية مخلة بالشرف، والثاني فشل كطبيب لأنه يحب صيد السمك، والثالث هنا يفشل في بحثه العلمي، ويجبر على أخذ إجازة، فيحاول أن يكتشف قدرات غير عادية في البشر حوله. الاختلاف الوحيد في يحيى هنا أنه لا يصرخ مثل الآخرين، بل يكتفي بالمراقبة والاكتشاف ليصل للمعرفة الكبرى، التي فشل في الوصول إليها "يحيى المنقباوي" في أرض الخوف، والطبيب يحيى في رسائل البحر. لكن "يحيى" في قدرات غير عادية، الذي ظن أنه حرا، يكتشف عكس ذلك، ويتأكد أنه كان لعبة وأداة في يد السلطة التي مثلها الفنان عباس أبو الحسن في شخصية "عمر البنهاوي". المرحلة الأخيرة التي وصل إليها "يحيى" هو الهروب واللجوء من هذا العالم إلى عالم التصوف، عالم قد يجد فيه إجابة أو معرفة أو قدرات غير عادية، لكنه يفاجأ بأنهم يرفضونه ولا يقبلونه، لأنه جاء ليكتشف ويراقب ويعرف لا ليستريح ويستسلم بكل جوارحه، فيقول له شيخ الطريقة: "اللى يراقب يبقى من المشككين.. إمشي إحنا مش عايزين مشاكل". وما زال "يحيى" بطل داوود عبد السيد يسأل ويقلق ويبحث عن الحقيقة، ويبقى سؤالان، السؤال الأول يشغل بال داوود عبد السيد، هل الإنسان مخير أم مجبر ومجرد ريشة في مهب الريح؟ أما السؤال الثاني هو ما يشغل الجمهور: "كيف سيظهر "يحيى" في فيلم داوود عبد السيد القادم"؟