يعيد التاريخ إنتاج نفسه مرة أخرى، فتتشابه الأحداث والقرارات، ورغم اختلاف الصفات، إلا أن النتيجة واحدة..ديكتاتورية هنا وهناك، وعنف في كل مكان، وتسلط بأمر حاكم تجاهل أحقية الرعية في الحرية. تنعقد المقارنة الصعبة بين الفترة الزمنية من عام 996 م – عهد الحاكم بأمر الله - والفترة الحالية بين عصر حديث تسيطر عليه كل وسائل التكنولوجيا، وعهد قديم غلبت عليه السيادة للحاكم، والطاعة للشعب. تولي الحاكم بأمر الله السلطة خلفاً لأبيه العزيز بالله، سنة 996 م، وكان في الحادية عشر من عمره، فتولي الوصاية عليه أبو الفتوح برجوان، الذي تنسب إليه حارة برجوان، ثم انفرد «الحاكم» بالسلطة و هو فى الخامسة عشر من عمره. يعد عهد الحاكم بأمر الله، من أغرب العهود التي عاشتها مصر، فبعد أن أمسك الحاكم بمقاليد السلطة من «برجوان»، تحول إلي سفاك للدماء، وتخلص من «أبى الفتوح برجوان» خوفاً من سلطانه، واستكمل مسيرته باضطهاد العلماء، بل وصل الأمر إلى كتابة عبارات مسيئة للصحابة، على جدران المساجد، ثم عاد و محاها مرة أخرى. واضطهد الحاكم بأمر الله، أهل الذمة، وهدم كنائسهم، وأجبرهم علي لبس أجراس ثقيلة في رقابهم ، ثم تراجع أيضاً، وعدل من سياسته. كان الحاكم بأمر الله، يعتمد منذ صغر سنه، على أتباعه السريين، لتصفية خصومه ومعارضيه، بالقتل أو النفى، مثل أبو محمد بن عمار، وأبوالفتوح برجوان، وكلما قتل أحدا من خصومه أو تخلص منه، خرج على الناس ببيان يوضح أن إقدامه على القتل أو النفى ليس لغرض الانفراد بالحكم، وإنما لإصلاح حال الناس فى مصر. الغريب أيضاً، أن الحاكم ساعد على ظهور وانتشار المذهب الدرزي، ففي سنة 1018 ظهر رجل شيعي متطرف يدعي حمزة بن علي الزوزني، أخذ يدعو لتأليه الحاكم بأمر الله، عن طريق حلول روح الله تعالي – معاذ الله – في آدم عليه السلام، ثم انتقالها إلي علي بن أبي طالب، فالحاكم بأمر الله. وانتشرت أفكار حمزة بن علي الزوزني في الشام، علي يد محمد بن اسماعيل البخاري الدرزي، والذي ينسب إليه المذهب الدرزى، ويتركز معظم معتنقى هذا المذهب في العصر الحديث، في سوريا، ولبنان، وفلسطين. ويذكر التاريخ أيضاً عدداً من الأحكام العجيبة ل «الحاكم»، منها أنه ادعى الألوهية ، حيث أمر الناس إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه، أن يقوم الناس على أقدامهم صفوفا، تعظيماً لذكره، واحتراما لاسمه ، وأمر بذلك في جميع البلدان التي تتبعه في سائر ممالكه، بل أمر أهل مصر خاصة أن يسجدوا لذكره. وفي فترة من حكمه أجبر اليهود والنصارى على الدخول في دين الإسلام كرها، ثم أذن لهم في العودة إلى دينهم، وخرب كنائسهم، ثم عمرها، وخرب كنيسة القيامة ثم أعادها. بل في فترة من حكمه، منع الحاكم بأمر الله، فتح الأسواق في النهار، وأمر بأن تفتح الأسواق والدكاكين في الليل، حتى حدث له موقف مع أحد النجارين، الذي فتح دكانه بالنهار (وكان الحاكم يركب حمارا ويقوم بالحسبة بنفسه في الأسواق) فسأل الحاكم النجار، «لما فتحت دكانك بالنهار؟»، فقال له النجار: «أنا أعمل كما يعمل الباعة عندما يسهرون بالليل للعمل، وعملي بالنهار من جملة السهر». وكان لهذا الموقف بركته على أهل مصر فأعاد لهم حالهم من البيع في النهار. وبنظرة أخرى لجوانب المقارنة بين العهد القديم والحديث، يذكر التاريخ للحاكم بأمر الله، حرصه على تأليب الطوائف بعضها على بعض، مثل إثارة المغاربة على المشارقة، أو استخدام القرامطة فى مواجهة العباسيين والعكس، ثم التخلص من الاثنين. ولم يكتفِ «الحاكم» بتأليب شعبه، بل استخدم الدين بانتهازية، ليثبت أقدامه فى الحكم، فأخرج من قصره المحظيات، والمماليك، وأعتقهم، وخلع الملابس الغالية والمذهبة، وارتدى نظيرتها الخشنة من الصوف، وخفف من الإسراف فى الاحتفالات بالمناسبات، كما أمر بألا يعظمه أحد فى كتاباته، وأن يقتصر الجميع على صيغة «سلام الله وتحياته ونوامى بركاته على أمير المؤمنين»، الأمر الذى جعل العوام والسفهاء والجهلة يهتفون باسمه. النصف الثاني من المجتمع – المرأة – كان لها نصيب في عهد الحاكم – حيث منع النساء من الخروج من منازلهن، حتى بقين أكثر من سبع سنوات وهن ممنوعات من الخروج من المنزل. وذكر التاريخ، أن «الحاكم» كان يركب حماره ويطوف به فى الأسواق مصطحبا معه عبده الأسود، فكان إذا وجد رجلاً يغش في تجارته، يأمر عبده أن يفعل بالتاجر فعل «اللواط» على الملأ، وأمام الناس. ويقال إن الحاكم بأمر الله كان يخطب في الناس كل جمعة فيتفاخر بنسبه لآل البيت وهو ما استفز المصريين، لأن غالبيتهم العظمي لم تعتنق المذهب الشيعي، فوقف بعض المصريين رافعين لافتة كبيرة مدون عليها أبيات من الشعر يستهزئون فيها من الخليفة. ويقول «ابن إياس» إن الحاكم بأمر الله غضب غضبا شديدا إثر ذلك وأدرك أن المصريين باتوا يضمرون له الشر، وهنا كان أحد أهم الأحداث في تاريخ مصر، حيث كان صاحب أكبر حريق للقاهرة في العصر الإسلامي، وأمر بحرق القاهرة، وأطلق عبيده ومواليه، يقتلون وينهبون الشعب المصرى، فاستجار الشعب بالعلماء والأعيان، الذين ذهبوا يتوسلون للحاكم ويؤمنونه على الرعية، فأوقف الحاكم التقتيل والحريق بعد حريق ثلث القاهرة. ووفقا ل «ابن إياس»، فقد امتد أذى الحاكم بالجميع، وبلا استثناء، من المسلمين والرعية، والطبقة الحاكمة، وأهل الذمة، لذا عاش الشعب المصرى في ظلم وجور هذا الديكتاتور، لمدة خمسة وعشرين عاما متواصلة، حتى مات عام 1021م ،بتدبير من اخته «ست الملك» بعدما اتهمها فى شرفها، وكاد أن يقتلها.