القمة العربية.. الرئيس السيسي: القضية الفلسطينية لا حياد فيها عن العدل والحق    غدًا.. انطلاق فعاليات الأسبوع التدريبي ال37 بمركز التنمية المحلية في سقارة    رئيس الوزراء: تشغيل المرحلة الثانية من مشروع الأتوبيس الترددي يوليو المقبل    مناقشة موازنة جامعة كفر الشيخ بمجلس النواب    بريطانيا تتفوق على الصين في حيازة سندات الخزانة الأمريكية خلال مارس الماضي    نص كلمة الرئيس السيسي في القمة العربية ببغداد    لوبوان: الإقامة في السجون ليست مجانية في الدنمارك    قيادي بحزب مستقبل وطن: القمة العربية ببغداد فرصة لتعزيز الجهود وتوحيد الصفوف لحماية الأمن القومي العربي    فتح ترحب ببيان دول أوروبية وتدعو لإلغاء اتفاقية الشراكة مع إسرائيل    إيمليانو مارتينيز يدخل حسابات الدوري السعودي    أسامة نبيه: القدر أنصف منتخب مصر للشباب بتأهله لكأس العالم    ضبط مخبزين لتصرفهما في 21 شيكارة دقيق بلدي مدعم بالبحيرة    عاجل.. الأرصاد تناشد المواطنين تجنب التعرض لأشعة الشمس    قطار ينهى حياة شاب أمام إحدى القرى ببني سويف    مواعيد وإجراءات التقديم للصف الأول الابتدائي ورياض الأطفال للعام الدراسي 2025/2026    عيد ميلاد الزعيم.. يسرا تتربع على عرش سينما عادل إمام ب17 فيلمًا    رئيس الوزراء العراقى: غزة تتعرض لإبادة جماعية غير مسبوقة ونرفض التهجير    تحت شعار السينما في عصر الذكاء الاصطناعي".. انطلاق الدورة 41 من مهرجان الإسكندرية    مؤتمر قصر العيني لجراحة المسالك البولية يحتفي بتراث علمي ممتد منذ 80عامًا    بدعوة رسمية.. باكستان تشارك في مراسم تنصيب البابا ليون الرابع عشر    20 نصيحة وقائية و5 إرشادات للاستحمام في حمامات السباحة    أسعار ومواصفات شيفرولية أوبترا موديل 2026 في مصر    في محكمة الأسرة.. حالات يجوز فيها رفع دعوى طلاق للضرر    "من زفّة إلى جنازة".. شقيق يُضحي بحياته لإنقاذ عريس قبل أيام من فرحه في البحيرة    الإسكان: غدًا.. غلق باب التظلمات بمبادرة سكن لكل المصريين 5    هل طلاب الصفين الثاني والثالث الثانوي ملزمون برد «التابلت» بعد الدراسة؟.. الوزارة تجيب    «تغولت على حقوق الأندية».. هجوم جديد من «الزمالك» على الرابطة    كيف وصف نجوم الفن الزعيم عادل إمام في عيد ميلاده ال85؟    منال سلامة عن الزعيم في عيد ميلاده: " عادل إمام من مدرسة فؤاد المهندس ومدبولي"    حكم من نسي قراءة الفاتحة وقرأها بعد السورة؟.. أمين الفتوى يوضح    يسري جبر: يوضح الحكمة من نداء النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة ب"يا ابنة أبي أمية"    مواعيد مباريات السبت 17مايو - 3 مواجهات حاسمة بالدوري المصري    متهمو "خلية داعش الهرم" أمام القضاء اليوم (تفاصيل)    بحضور وزير الصحة.. بدء احتفالية اليوم العالمي للطبيب البيطري    لا للتصريح الأمني.. نقيب الصحفيين يطلق حملة لتعديل المادة 12 بقانون الصحافة    السكة الحديد تعلن مواعيد حجز تذاكر القطارات خلال عطلة عيد الأضحى    زعيم كوريا الشمالية يشرف على تدريبات جوية ويدعو لتكثيف الاستعداد للحرب    السكك الحديدية: تأخر القطارات على بعض الخطوط لإجراء أعمال تطوير في إطار المشروعات القومية    رئيس الوزراء يستمع لشرح تفصيلى حول التشغيل التجريبى للأتوبيس الترددى    متحدث حكومة العراق: فلسطين محور قمة بغداد والزعماء العرب مجمعون على دعم غزة    الأرجنتين تعلق استيراد الدجاج البرازيلي بعد تفشي إنفلونزا الطيور    حتى 22 مايو.. الحجز إلكترونيا للحصول علي مصانع جاهزة بالروبيكي    دار الإفتاء المصرية: الأضحية شعيرة ولا يمكن استبدالها بالصدقات    جدول امتحانات الشهادة الإعدادية في شمال سيناء    محافظ جنوب سيناء يعلن آليات جديدة لتيسير نقل مرضى الغسيل الكلوي    "فن وإبداع".. معرض فني نتاج ورش قصور الثقافة بالمنيا    «الزمالك» يعلن تطور مفاجئ في قضيه بوبيندزا    نقيب العلاج الطبيعي: إحالة خريجي التربية الرياضية للنيابة حال ممارسة الطب    أزمة «محمود وبوسي» تُجدد الجدل حول «الطلاق الشفهي»    مقتل عنصر أمن خلال محاولة اقتحام لمقر الحكومة الليبية في طرابلس    "هزيمة الإسماعيلي وفوز تشيلسي".. نتائج مباريات أمس الجمعة    حزب الجيل: توجيهات السيسي بتطوير التعليم تُعزز من جودة حياة المواطن    اجتماع لحزب الاتحاد في سوهاج استعدادا للاستحقاقات الدستورية المقبلة    شقيقة سعاد حسني ترد على خطاب عبد الحليم حافظ وتكشف مفاجأة    أستون فيلا يفوز بثنائية أمام توتنهام في الدوري الإنجليزي    ما حكم من مات غنيا ولم يؤد فريضة الحج؟.. الإفتاء توضح    «أنقذوا الإسماعيلي».. كبير مشجعي الدراويش: أغمي عليا والهبوط بالنسبة لي صدمة عمري    جورج وسوف: أنا بخير وصحتى منيحة.. خفوا إشاعات عنى أرجوكم (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملوخية وحشيش‏8‏
نشر في الأهرام المسائي يوم 07 - 08 - 2010

تسمو الدول وتتطور بالعلم والمعلومات الصحيحة‏,‏ ولما رأيت أن جهل معظم المصريين بتاريخهم سوف يؤدي إلي مفاهيم خاطئة‏,‏ قد تتفاقم وتتحول إلي سلوك متطرف يعوق التقدم‏,‏ تفرغت أكثر من أربع سنوات لانجاز هذا الكتاب‏.‏
لأن بعض المتصدين للكتابة إلي الناس أو المتحدثين اليهم ينطقون عن جهل أو سوء نية‏,‏ ويخلطون بين العقائد الخالدة وبين الأشخاص الفانين‏,‏ وهدفهم تأخر هذا الشعب العريق‏,‏ ففي تأخره رواج لبضاعتهم الفاسدة‏!‏
والتاريخ ذاكرة الأمة‏.‏ وكانت لمصر امبراطورية فرعونية قوية ثرية‏,‏ ضعفت بفساد الحكام‏,‏ وركونهم الي حياة الدعة والترف‏,‏ حتي تكون الجيش المصري من المرتزقة الأجانب‏,‏ الذين سيطروا علي البلاد بحكم السلاح‏,‏ فتمزقت البلاد إلي دويلات‏,‏ وكشف الأعداء سرها‏,‏ أي عرفوا الطريق الي احتلالها‏,‏ ووقعت مصر تحت استعمار طويل متعاقب لدول أقل منها حضارة‏,‏ من الفرس واليونان والرومان والعرب والفاطميين والأكراد الأيوبيين‏,‏ ثم المماليك فالأتراك العثمانيين وأخيرا الانجليز‏!‏
ومع استمرار المذلة والقمع‏,‏ فقد المصريون إحساسهم بالعزة القومية والاستقلالية‏.‏ قاوموا بعض الأحيان بإيجابية‏,‏ ومعظم الأحايين بسلبية‏,‏ من منطق أنهم باقون في بلادهم‏,‏ أما الطغاة فإلي زوال‏!‏
هذا الكتاب بجزء يه خلاصة آلاف الصفحات‏,‏ جميعها من المراجع الأمهات‏,‏ وحصيلة عشرات من الدراسات الحديثة الممتازة لبعض دارسينا الذين رجعوا إلي مصادر ومخطوطات ليست تحت يدي‏.‏ وقد انشأت هذا الكتاب من مقتطفات متتابعة من هذه المراجع النفيسة‏,‏ ولم انتقل منها إلي كتابات المعاصرين إلا لإيضاح ما خفي فهمه علي مؤرخي العصور الوسطي ولم أتدخل أنا إلا في القليل لربط أحداث أو إزالة غموض‏.‏
وجميع معلومات هذا الكتاب مسندة إلي مصادرها الأصلية المذكورة في نهاية كل جزء‏.‏ وقارئ مؤرخي العصور الوسطي يعاني من المغالاة والتعميم‏,‏كأن يقول أحدهم مثلا‏:‏ ثم حاربهم وقضي عليهم جميعا‏,‏ ويكون قصده أنه قتل الكثيرين منهم‏!..‏ ويعاني أيضا من اللغة المكتوبة بمفردات فصيحة وتركيبات عامية‏,‏ وقد تركت بعضها للحفاظ علي مذاق روح العصر‏.‏
وبسبب كثرة الألفاظ البائدة والأعجمية‏,‏ وغرابة الأسماء‏,‏ مثل‏:‏ طرنطاي‏,‏ يلبغا‏,‏ أشلون خوند‏,‏ أقجماس‏,‏ صرغتمش‏,‏ طشتمر‏,‏ وهو عينات سهلة‏,‏ اقتصدت في ذكر الشخصيات الهامشية بما لا يخل بالحقيقة التاريخية‏.‏
كما يكابد قارئ هؤلاء المؤرخين العظماء من جنوحهم الي صياغة التاريخ بأسلوب اليوميات‏.‏ فكان المؤرخ يبدأ الحادثة التاريخية المهمة‏,‏ ثم يترك إلي أحداث أخري منها ما هو خطير ومنها ما هو تافه‏,‏ ثم يعود إلي إكمال الحادثة التي بدأ بها‏,‏ بعد عشرات الصفحات أو في المجلد التالي‏!‏
ومن أمثلة المراجع الأساسية‏:‏ كتاب السلوك للمقريزي وهو أربعة أجزاء في اثني عشر مجلدا ضخما‏,‏ وخطط المقريزي في جزءين كبيرين‏,‏ والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي ومكون من ستة عشر جزءا تضمها عشرة مجلدات ضخمة‏,‏ وبدائع الزهور لإبن إياس وهو خمسة أجزاء في ستة مجلدات‏,‏ إلي جانب تاريخ الجبرتي ومراجع أخري عديدة‏.‏
ولا يقل أهمية عنهم العلماء الذين أفنوا حياتهم في تحقيق هذه المراجع وكتابة الهوامش الموضحة للأسماء والمهن والأزياء المنقرضة‏,‏ حتي ان الهوامش تشغل نصف المساحة تقريبا‏,‏ من هؤلاء الأساتذة الدكاترة‏:‏ محمد مصطفي زيادة‏,‏ محمد مصطفي‏,‏ سعيد عبدالفتاح عاشور‏,‏ سيدة اسماعيل كاشف‏,‏ حسن حبشي‏,‏ فهيم محمد شلتوت‏,‏ ابراهيم علي طرخان‏,‏ سعاد ماهر‏,‏ جمال الدين الشيال‏,‏ مصطفي السقا‏,‏ حسن ابراهيم حسن‏,‏ محمد كمال‏,‏ السيد محمد‏,‏ أحمد أمين‏,‏ علي مبارك‏,‏ فيليب حتي‏,‏ عبداللطيف حمزة‏,‏ حكيم أمين عبدالسيد‏,‏ محمد قنديل البقلي‏,‏ السيد محمد العزاوي وآخرون‏.‏ إلي هؤلاء الأفاضل وكثيرين أدين بالفضل‏.‏
والتاريخ في هذا الكتاب للسلاطين والملوك‏,‏ وقبل ذلك لحياة الناس وآثارهم المعمارية والأدبية والفنية وأزيائهم‏,‏ وارتباطهم بالمنطقة المحيطة‏,‏ ثم علاقتهم بأوروبا بعد أن تخلصت من المتاجرين بالدين‏,‏ وجعلت المسيحية للحياة الروحية‏,‏ وشئون الحياة العملية لأهل العلم والإدارة‏,‏ فقفز الغرب من الانحطاط والتخلف إلي ما هو عليه الآن من سيادة علي العالم‏.‏ فسادة الدنيا دائما هم سادة العلوم والابتكارات‏.‏ والمبدع لا يبتكر إلا في مناخ من الحرية الكاملة واحترام الرأي الآخر ويقدس المبادرة الفردية واحترام الملكات الشخصية‏.‏
كان الحاكم صبيا‏,‏ انتقل بوفاة والده من اللعب مع الصبيان الي عرش مصر والدولة الفاطمية‏.‏
وقد احتار المؤرخون والمبدعون في شخصية الخليفة الجديد‏.‏ فذكر ابن تغري بردي في تأريخه إن خلافته كانت متضادة‏,‏ بين شجاعة وإقدام‏,‏ شح وسخاء‏,‏ محبة للعلم وانتقام من الفقراء‏,‏ ميل الي الصلاح وقتل الصلحاء‏,‏ أقام يلبس الصوف سبع سنين وامتنع عن دخول الحمام وأقام سنين يجلس في الشمس‏,‏ ثم عن له أن يجلس في الظلام‏..‏ قتل من العلماء والكتاب والأماثل مالايحصي‏.‏
وكتب علي المساجد سب أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص‏(‏ أعداء علي بن أبي طالب‏)‏ ثم محاه‏!‏
أمر بقتل الكلاب وبيع الفقاع ثم نهي عنه‏(‏ والفقاع شراب من الشعير له فقاقيع مثل البيرة‏).‏ ورفع المكوس عن البلاء‏,‏ ونهي عن النجوم وكان ينظر فيها ويخدم زجل وطالعه المريخ‏,‏ ولهذا كان يسفك الدماء‏!‏
وبني‏(‏ أكمل‏)‏ جامع القاهرة‏(‏ الذي يعرف باسمه الآن‏)‏ وجامع راشدة بمدينة مصر‏(‏ بين الفسطاط ودير الطين أي دار السلام الآن‏)‏ ومساجده كثيرة‏,‏ ونقل إليها المصاحف المفضضة والستور الحريرية وقناديل الذهب والفضة‏.‏
ومنع صلاة التروايح عشر سنين ثم أباحها‏.‏ومنع بيع العنب وأراق خمسة آلاف جرة عسل في البحر‏(‏ النيل‏)‏ خوفا من عمل النبيذ منها‏,‏ وأسلم خلق من أهل الزمة خوفا منه
‏*‏ الأمير العبد‏:‏
أمر سنة‏395‏ ه بإنشاء دار العلم‏(‏ أودار الحكمة‏)‏ لتكون أداة للدعاية لمذهبه الشيعي الي جوار الأزهر‏,‏ وعين فيها الفقراء والقراء والأطباء والعلماء‏,‏ وأباح الاطلاع علي الكتب ونسخها لمن يشاء‏..‏وكانت مكان هذه الدار حارة برجوان الذي قتله الحاكم‏,.‏ وكانت دار العلم بجوار داره‏,‏ وفي جزء من مكان دار برجوان فيما بعد كان سكن المقريزي المؤرخ الكبير يقول ابن إياس‏:‏
كان القائم بتدبير أمور القاهرة الأمير برجوان‏(‏ العبد السلافي‏)..‏وكان الحاكم معه كالمحجور عليه‏,‏ فما طاق الحاكم ذلك وأرسل اليه من قتله في الحمام‏,‏ واحتاط علي موجوده فوجد له أضعاف ماوجد للأمير جوهر القائد‏.‏
فمن جملة ذلك‏:‏ من الذهب مائتا ألف ألف دينار‏(‏ مائتا مليون‏)‏ ومن الفضة‏(‏ الدراهم خمسون أردبا‏,‏ ومن القماش مائتان وستون بقجة‏,‏ وألف قميص حرير سكندري‏,‏ وإثنا عشر صندوق جواهر وفصوص‏..‏حتي قيل كان ينقل من حارة برجوان الي قصر الزمرد‏(‏ قصر الحاكم‏)‏ في كل يوم دفعتان علي مائتي جمل‏,‏ غير الدواب والبهائم والعبيد والجواري‏..‏
قال الذهبي‏:‏ فلما قتل برجوان صفا الجو للحاكم‏,‏ وصار يفعل أشياء لاتقع إلا من المجانين
فأفرد لليهود حارة زويلة وأسكنهم بها‏,‏ وأمرهم ألا يخالطوا المسلمين في حاراتهم‏..‏ وكان في وقت آخر قد أمرهم أن يدخلوا كلهم في الإسلام‏,‏ فخافوا منه وأسلموا‏,‏ ثم أذن لهم بالعودة الي دينهم‏,‏ ثم أمر بهدم كنائسهم ثم أمر بإعادتها الي ما كانت عليه أولا‏!‏
‏*‏ كنيسة القيامة‏:‏
ويذكر ابن تغري بردي أن الحاكم قتل عددا كبيرا من كبراء دولته‏..‏ومنع الملوخية‏,‏ ونهي عن المسك وقتل من باعه‏..‏وأمر النصاري بأن يحملوا في أعناقهم صلبانا‏,‏ طول الصليب ذراع وزنته خمسة أرطال‏.‏
وأمر اليهود أن يحملوا في أعناقهم قرامي خشب في زنة الصلبان أيضا‏,‏ وأن يلبسوا العمائم السوداء‏..‏وأمر بقتل جميع الكلاب‏...‏ وأذن للنصاري الذين أكرههم علي الاسلام في الرجوع الي ديانتهم وفي عام‏404‏ ه منع النساء من الخروج الي الطريق ومنع عمل الخفاف‏(‏ الأحذية‏)‏ لهن‏,‏ وقتل بسبب ذلك عدة نسوة‏,‏ ولم يزلن ممنوعات سبع سنين وسبعة أشهر حتي مات‏..‏وأمر بهدم الكنيسة المعروفة بالقمامة‏..‏ ثم أنه أمر بعد مدة ببناء ماكان أمر بهدمه من الكنائس‏..‏وكان يفعل الشيء ثم ينقضه
والمقصود بكنيسة القمامة هي كنيسة القيامة
‏(‏وقد سماها الكتاب العرب بذلك استخفافا‏,‏ وهكذا أطلق الكتاب الغربيون علي بعض الأماكن الاسلامية‏.‏
وهي أشهر الكنائس المسيحية‏,‏ بنتها الملكة هيلانة أم قسطنطين عاهل الامبراطورية الرومانية الشرقية بيزنطة ومؤسس مدينة القسطنطينية وهو أول امبراطور تنصر وأمر بنشر الديانة المسيحية وجعلها دين الحكومة الرسمي‏,‏ وكان الفراغ من بنائها سنة‏335‏ م أي قبل الاسلام بحوالي ثلاثة قرون ومن ذلك التاريخ للآن هي الكنيسة التي يحج اليها المسيحيون منه جميع أصقاع الأرض‏.‏
هدمها الفرس أثناء إغارتهم علي سوريا وفلسطين سنة‏614‏ م السنة الهجرية الأولي تبدأ‏6‏ يوليو‏922‏ م‏)..‏
‏(‏ وفي سنة‏628‏ م أجلاهم هرقل وأعاد بناءها في العام التالي‏..‏ ثم جاء الفتح الاسلامي سنة‏637‏ م ودخل عمر بن الخطاب القدس وزار كنيسة القيامة‏,‏ فلما أدركته الصلاة خرج منها وصلي أمامها‏,‏ ولم يصل في القيامة خشية أن يدعيها المسلمون ويحولوها إلي مسجد‏.‏ وقد كتب عنها جغرافيو العرب‏,‏ وجميعهم قالوا أنها وسط المدينة يحيط بها سور عظيم وفيه مقبرة يسمونها القيامة‏,‏ لاعتقادهم أن المسيح كانت قيامته منها‏.‏ وهي تحتوي علي‏24‏ كنيسة ومصلي ومدخل لجميع المسيحيين علي اختلاف ألوانهم ومذاهبهم
كان سلوك الحاكم يتحسن من حين لآخر وعلي فترات متقطعة‏,‏ ثم يعود لسيرته‏!..‏ خطر له أن يقوم بوظيفة المحتسب‏,‏ والمحتسب هو مراقب الأسواق‏.‏
فكان يلبس صوفا أبيض‏,‏ ويركب علي حمار أشهب قدر البغل يسمي القمر‏,‏ ويطوف الأسواق ومعه عبد أسود طويل عريض يمشي في ركابه يقال له مسعود‏,‏ فإن وجد أحدا غش في بضاعته أمر ذلك العبد مسعود بأن يفعل به الفاحشة العظمي وهي اللواط‏!!..‏ وقد صار مسعود هذا مثلا عند أهل مصر‏(‏ وقتها‏)‏ إذا مزح بعضهم مع بعض يقولون‏:‏ أحضر له مسعود‏!!‏
هذا ما قاله ابن إياس‏(‏ ج‏1‏ ق‏1‏ ص‏200).‏ وبعد ذلك يذكر بيتين من الشعر الركيك البذيء مدحا في مواهب مسعود‏,‏ ثم يقول‏:‏
وفي سنة‏387‏ ه شرقت البلاد‏(‏ بسبب قلة مياه النيل‏)‏ فوقع الغلاء بمصر‏,‏ واستغاث الناس بالحاكم‏,‏ فقال‏:‏ إذا كان الغد أتوجه إلي جامع راشدة وأعود‏,‏ فإن وجدت في طريقي مكانا خاليا من الغلة ضربت عنق التاجر صاحب هذا المكان علي باب‏..‏ وخاف تجار السوق السوداء وأظهروا الغلال بالسعر الذي حدده الحاكم‏.‏ وقد كانت له جولات كثيرة مع التجار‏,‏ وكان يتجسس علي مخابئهم ليلا ويأمر العساكر بمداهمتمهم نهارا‏.‏
‏*‏ نيرون زمانه‏:‏
قال ابن الصابئ أحد معاصريه‏:‏ كان الحاكم يواصل الركوب ليلا ونهارا‏,‏ ويتصدي له الناس علي طبقاتهم فيقف ويسمع منهم‏,‏ فمن أراد قضاء حاجة قضاها له‏.(‏ فلما زاد شططه‏)‏ صاروا موتورين منه‏,‏ فكانوا يدسون إليه الرقاع المختومة بالدعاء عليه والسب له ولأسلافه‏..‏ حتي انتهي فعلهم الي أن عملوا تمثال امرأة بخف وثياب‏,‏ ونصبوها في الطريق‏,‏ وتركوا في يدها رسالة كأنها مظلمة فتقدم الحاكم وأخذها من يدها‏,‏ فقرأ فيها كل قبيح‏,‏ وعرف أنهم سخروا منه‏..‏ فعاد من وقته إلي القاهرة‏(‏ مدينته الملكية‏)‏ واستدعي القواد وأمرهم بالسير إلي مدينة مصر وحرقها ونهبها وقتل كل من ظفروا به‏!!‏
فتوجه إليها العبيد والروم والمغاربه وجميع العساكر‏,‏ وعلم أهل مصر بذلك فاجتمعوا وقاتلوا عن أنفسهم‏,‏ وأضرم العسكر النار في أطراف البلد‏..‏
واستمرت الحرب بين الرعية والعبيد ثلاثة أيام‏,‏ والحاكم يركب كل يوم إلي القرافة‏,‏ ويطلع الي الجبل ويشاهد النار ويسمع الصياح‏,‏ فيتظاهر بالتوجع ويقول لعن الله العبيد‏,‏ من أمرهم بذلك؟‏!‏
فلما كان اليوم الرابع اجتمع الأشراف والشيوخ في الجوامع ورفعوا المصاحف وضجوا بالبكاء‏...‏ فرق لهم العساكر من الأتراك وانحازوا اليهم وقاتلوا عنهم‏,‏ ولان أكثرهم مخالط للرعية ومصاهر منهم‏.‏ وعظمت القصة وزادت الفتنة‏,‏ وتحالفت كتامة‏(‏ القبيلة المغربية‏)‏ والأتراك ضد العبيد‏,‏ وراسلوا الحاكم وقالوا‏:‏ نحن مماليك وهذا البلد بلدك وفيه حريمنا وأموالنا وأولادنا وعقارنا‏,‏ وما علمنا أن أهله جنوا جنايه تقتضي مثل هذه المعاملة‏,‏ فإن كان هناك سر لا نعرفه فأخبرنا‏,‏ وانتظر حتي نخرج بعيالنا وأموالنا‏.‏ وإن كان ما فعله هؤلاء العبيد مخالفا لرأيك فأطلقنا عليهم‏.‏ فأجاب بأنه ما أراد ذلك ولعن الفاعل له والآمر به‏!..‏ وأرسل سرا الي العبيد يقول‏:‏ كونوا علي أمركم‏.‏ وأرسل إليهم سلاحا قواهم به‏..‏
كان غرضه أن يطرح بعضهم علي بعض‏,‏ وينقم من فريق بفريق‏.‏ وعلم القوم بما فعل‏,‏ فراسلته كتامة والأتراك‏:‏ قد عرفنا غرضك وفيه هلاك هذه البلدة وأهلها وهلاكنا معهم‏,‏ وما نرضي يقتل الحريم والأطفال‏,‏ فإذا لم تمنعهم حرقنا القاهرة‏(‏ مدينته‏)‏ واستنفزنا العرب وغيرهم‏.‏ فلما سمع الرسالة وكانوا قد تفوقوا علي العبيد‏,‏ ركب حماره ووقف بين الصفين وأومأ للعبيد بالانصراف فانصرفوا‏..‏ وحلف للأتراك وأعيان مصر أنه بريء من هذا‏,‏ فقبلوا الأرض بين يديه وشكروه‏..‏ وسكنت الفتنة وفتح الناس أسواقهم‏..‏ بعد أن احترق من مدينة مصر مقدار الثلث‏,‏ ونهب بضفها‏..‏
وتتبع المصريون المخطوفات من زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم وابتاعوهن من العبيد بعد أن فضحوهن‏,‏ وبعد أن انتحرت بعضهن خوفا من العار‏,‏ واستغاث بعض الأشراف بالحاكم‏..‏ فقال‏:‏ أنا أسدد عنكم ما يطلبونه منكم‏.‏ فقال له أحدهم‏:‏ أراك الله في أهلك وولدك مثل مارأيناه في أهلنا وولدنا‏.‏ فصبر عليه وقال‏:‏ أنت أيها الشريف محرج ونحن حقيقون باحتمالك
ويكتب ابن تغري بردي عن ذروة شطط الحاكم بأمر الله‏:‏ ثم عن له أن يدعي الربوبية‏,‏ وقرب منه رجلا اسمه الأخرم ساعده علي ذلك‏..‏ فخرج هذا الأخرم من القاهرة راكبا في خمسين رجلا من أصحابه قاصدا مدينة مصر‏,‏ ودخل الجامع ومعه أصحابه علي دوابهم‏,‏ وقاضي القضاة ينظر في الأحكام‏,‏ فنهبوا الناس وسلبوهم ثيابهم‏,‏ وسلموا للقاضي رقعة فيها فتوي مصدرة‏:‏ بسم الحاكم الرحمن الرحيم‏!!..‏فصاح القاضي منكرا‏,‏وثار الناس بالأخرم وقتلوا اصحابه وهرب هو‏(!!)‏
ثم شاع الحديث في دعوي الحاكم الربوبية‏,‏ وتقرب إليه جماعة من الجهال المسلمين‏,‏ فكانوا إذا لقوه قالوا‏:‏ السلام عليك ياواحد يا أحد يامحيي يامميت‏,‏وصارت له دعاة يدعون أوباش الناس‏,‏ فمال اليه خلق كثير طمعا في الدنيا والتقرب منه‏.‏
وكان اليهودي والنصراني الذي أرغم علي تغيير دينه إذا لقيه يقول‏:‏ إلهي قد رغبت في شريعتي الأولي‏,‏فيقول الحاكم‏:‏ افعل مابدالك
يقول ابن إياس‏(‏ ثم أمر الناس أن يغلقوا الأسواق بالنهار ويفتحوها بالليل‏..‏ومر يوما في السوق بالنهار فرأي شيخا يعمل في النجارة من بعد العصر‏,‏ فوقف وقال له‏:‏ ألم أنهكم عن العمل بالنهار؟ فقال الشيخ‏:‏ ياأمير المؤمنين‏,‏ أما كان الناس يسهرون بالليل‏,‏ هذا من جملة السهر فتبسم وتركه‏,‏ ثم أعاد الناس الي ماكانوا عليه
‏*‏ جفاف الدماغ
بهذا الاعوجاج أصبح الحاكم بأمر الله خطرا علي مصير أسرته كلها‏,‏ فكان لابد من قتله وهناك شبه إجماع عند مؤرخي المشرق العربي علي أن أخته ست الملك قتلته أو دبرت لقتله‏,‏ ماعدا المسبحي المؤرخ الفاطمي‏,‏ وينقل عنه المقريزي‏:‏ وفي محرم سنة‏415‏ ه قبض علي رجل بالصعيد الأعلي أقر بأنه قتل الحاكم من جملة أربعة أنفس تفرقوا في البلاد‏,‏ وأظهر قطعة من جلد رأس الحاكم وقطعة من الفوطة التي كانت عليه‏..‏وقال أنه قتله عزة لله والاسلام‏..‏ سألوه‏:‏ كيف قتلته فأخرج سكينا طعن به قلبه وهو يقول‏:‏ هكذا قتلته‏.‏
ويعلق المقريزي‏:‏ هذا هو الخبر الصيح في مقتل الحاكم بأمر الله‏,‏ لامايحكيه المشارقة في كتبهم
والمشارقة هم الكتاب الموالون للعباسيين أعداء الشيعة لكن المقريزي لاينفي عنه منع لعب الشطرنج والملوخية وخروج النساء‏,‏ وإعادة الضرائب الملغاة وهدم الكنائس بطريق المكس‏(‏ قرب باب الحديد‏)‏ وبحارة الروم‏..‏ وقتل كثير من الخذام والكتاب الصقالبة منهم حفيد جوهر الصقلي فاتح مصر‏!‏
ويعلل المقريزي هذا بأن الحاكم كان يعتريه جفاف في دماغه‏,‏ فلذلك كثر تناقضه‏!‏
وقد شخص الطبيب يحيي الانطاكي المعاصر له مرضه هكذا‏:‏ كان سبب بغية سوء المزاج في دماغه‏,‏ أحدث له ضربا من المالنخوليا وفساد الفكر منذ حداثته‏..‏فمثله يتوهم ويتخيل أمورا عجيبة‏,‏ وهو يظن أنه علي صواب فيما يتصوره‏..‏وقد نصحه الطبيب ابن نسطاس أن يشرب النبيذ ويسمع المغني‏,‏ فانصلحت أخلاقه وترطب مزاج دماغه ولما مات الطبيب وعاد الي الامتناع عن شرب النبيذ وسماع الأغاني رجع الي ماكان فيه
‏*‏ ظهرت يامشئوم‏:‏
وهذه قصة قتله كما جمعها ابن تغري يردي من عدة مصادر‏:‏
قال ابن الصابئ وغيره‏:‏ إن الحاكم لمابدت منه هذه الأمور الشنيعة استوجشي الناس منه‏,‏ وكانت أخته ست الملك أعقل النساء‏,‏ فكانت تنهاه وتقول‏:‏ يا أخي احذر أن يكون خراب هذا البيت علي يديك‏!..‏فكان يرد عليها بغليظ الكلام ويهددها بالقتل ثم بعث إليها يقول‏:‏ رفع الي أصحاب الأخبار العسسأنك تدخلين الرجال اليك وتمكنينهم من نفسك‏.‏ فعلمت أنها هالكة‏..‏
وكان بمصر سيف الدولة بن دؤاس من شيوخ كتامة القبيلة المغربية وكان شديد الحذر من الحاكم‏(‏ ويخشي أن يغتاله‏)..‏
وراسلت أخت الحاكم ابن دؤاس‏,‏ وطلبت منه أن يزورها فتنكر تحت جنح الليل أو تفعل هي ذلك‏..‏وذهبت الي داره متنكرة وحيدة وقالت له‏:‏ قد جئت في أمر لي ولك وللمسلمين وأريد مساندتك‏;‏ فقالت‏:‏ أنا عبدك فاستحلفته حتي وثقت فيه ثم قالت‏:‏ أنت تعلم أن أخي متي تمكن منك قتلك‏,‏ وكذا أنا‏,‏ ونحن معا في خطر عظيم‏,‏ وقد زاد في جنونه وادعي الألوهية وهتك ناموس الشريعة وناموس آبائه‏,‏ وأنا خائفة أن يثور المسلمون عليه فيقتلونا معه وتنقضي هذه الدولة أقبح انقراض‏..‏
فقال سيف الدولة‏:‏ صدقت والله يامولاتنا فما الرأي؟
قالت‏:‏ نقتله ونستريح منه‏,‏ ونقيم ولده مكانه‏,‏ وتكون أنت صاحب جيشه وشيخ الدولة والقائم بأمره‏,‏ وأنا امرأة من وراء الحجاب‏,‏ وليس غرضي إلا أن أعيش بينكم آمنة من الفضيحة‏..‏ثم وعدته بالأموال والخلع‏..‏وقالت‏:‏ أريد عبدين من عبيدك تثق بهما وتعتمد عليهما في أسرارك‏..‏
فأحضر عبدين وصفهما بالشهامة‏,‏ فاستحلفتهما ووهبتهما ألف دينار ووعدتهما بثياب وإقطاعات وخيل وغير ذلك‏,‏ وقالت لهما أريد منكما أن تصعدا غدا الي الجيل‏,‏ فإنها نوبة الحاكم في الركوب‏,‏ وهو ينفرد ولايبقي منه إلا القرافي الركابي والصبي‏(‏ سايس الحمار‏)‏ إن كان معه وأعطتهما سكينين من صنع المغاربة‏,‏ ورجعت الي القصر وقد أحكمت الأمر
وكان للحاكم قوم ينتظرونه كل ليلة علي باب القصر‏,‏ فإذا ركب ركبوا معه ويتبعه أبو عروس صاحب العسس‏(‏ مدير المباحث‏)‏ ومن مهمته أن يطوف كل ليلة حول القصر في ألف رجل‏,‏ فإذا خرج الحاكم من باب القاهرة قال له‏:‏ ارجع واغلق الأبواب فلا يفتحها حتي يعود‏..‏
وكان الحاكم ينظر في النجوم‏,‏ فرأي أنه مهدد بقطع‏(‏ أي بخطر الموت في وقت معين‏)‏ فإن تجاوزه عاش نيفا وثمانين سنة‏.‏ وكان لا يترك الركوب بالليل والطواف بالقاهرة‏.‏ فلما كانت تلك الليلة قال لوالدته‏:‏ علي في هذه الليلة وفي غد قطع عظيم‏,‏ والدليل عليه علامة تظهر في السماء وهي طلوع نجم معين‏(‏ ذكر اسمه‏)..‏ ثم قال‏:‏ خذي مفتاح الخزانة وفيها ثلاثمائة ألف دينار‏,‏ خذيها إلي قصرك تكون ذخيرة لك إن مت‏.‏ فقالت‏:‏ ارحمني ودع الركوب الليلة‏,‏ وكان يحبها فوافق‏..‏
وبعد مدة ضجر من قعوده بالقصر‏,‏ فطلبت منه أمه أن ينام‏,‏ فنام ثم تنبه وقد بقي من الليل ثلثه‏,‏ وهو ينفخ ويقول‏:‏ إن لم أركب الليلة وأتخرج خرجت روحي‏.‏ ثم قام وركب حماره‏,‏ وأخته تراقبه من قصرها المقابل لقصره‏(‏ القصر الغربي الذي بناه العزيز والدها‏,‏ وكان يطل علي ترعة الخليج شارع بورسعيد الآن‏)..‏ ولما ركب سار في درب يقال له درب السباع‏,‏ وهناك صرف صاحب العسس والخادم نسيم صاحب الستر والسيف‏,‏ وخرج إلي القرافه ومعه القرافي الركابي والصبي‏.‏ نظر إلي النجوم وضرب بكف علي كف وقال‏:‏ إن لله وإنا اليه راجعون‏.‏ حملق الي نجم معين وقال‏:‏ ظهرت يا مشئوم‏!‏
ثم سار في الجبل فاعترضه عشرة فوارس من بني قرة‏,‏ وسألوا منه إحسانا‏,‏ فأمر القرافي أن يأخذهم إلي بيت المال ويعطيهم عشرة آلاف درهم‏..‏
وسار هو والصبي بين الصخور التي تعود المرور من بينها‏,‏ وقد كمن العبدان الأسودان له‏,‏ وقد قرب الفجر‏,‏ فوثبا عليه وطرحاه أرضا‏,‏ وقتلاه وقطعا يديه‏,‏ وقتلا الصبي‏,‏ وحملا الحاكم الي ابن دؤاس بعد أن قطعا أرجل الحمار‏.‏
فحمله معها الي ست الملك فدفته وأعطت ابن دؤاس وعبديه مالا كثيرا‏..‏
بعد انصرافهم استدعت الوزير خطير الملك وعرفته الحال‏,‏ وجعلته يقسم علي الطاعة والولاء‏..‏
وافتقد الناس الحاكم في اليوم التالي‏,‏ ومنع أبو عروس‏(‏ صاحب العسس‏)‏ فتح أبواب القاهرة انتظارا لعودته حسب أوامره‏..‏ وأرسل القواد يسألون أخته عنه‏,‏ فقالت‏:‏ ذكر لي أنه يغيب سبعة أيام‏,‏ فاطمأنوا‏.‏ وراحت في هذه الأيام ترتب الأمور وتفرق الأموال وتأخذ العهد والبيعة لابن الحاكم واسمه أبو الحسن ولم يكن ولي العهد‏)..‏
فلما كان اليوم السابع ألبسته أفخر الملابس‏,‏ واستدعت ابن دؤاس وقالت له‏:‏ هذا الصبي ولدك‏,‏ فأبذل وسعك في خدمته‏..‏ ووضعت التاج علي رأس الصبي‏,‏ وهو تاج المعز جد أبيه وفيه جواهر نفيسه‏.‏ وأركبته مركبا من مراكب الخليفة‏..‏ وخرج معه الوزير وأرباب الدولة‏,‏ فلما صاروا عند باب القصر صاح الوزير خطير الملك‏:‏ ياعبيد الدولة‏,‏ مولاتنا تقول لكم هذا مولاكم فسلموا عليه‏.‏ فقبلوا الأرض‏,‏ وارتفعت أصواتهم بالتكبير والتهليل‏.‏
ولقبوه‏:‏ الظاهر لإعزاز دين الله‏.‏ وبايعوه وفرح الناس‏.‏ وأقيم العزاء علي الحاكم ثلاثة أيام‏..‏
وكان أرباب الدولة لما لم يعد الحاكم قد خرجوا ومعهم القضاة والقواد والأشراف‏,‏ وأقاموا عند الجبل إلي آخر النهار‏,‏ ثم رجعوا إلي القاهرة ثم عادوا‏,‏ وفعلوا ذلك ثلاثة أيام‏.‏ وفي يوم الخميس خرج عدد من أرباب الدولة والاتراك والكتاميين والقضاة والعدول‏,‏ وساروا حتي بلغوا دير القصير‏(‏ حلوان‏)‏ وبحثوا في الجبل‏,‏ فرأوا حمار الحاكم مقطوع الأرجل وعليه سرجه ولجامه‏,‏ وتتبعوا الأثر حتي أتوا إلي بركة شرقي حلوان‏,‏ فعثروا علي ثيابه لم تحل أزرارها ومنها أثر السكاكين‏(‏ لكنهم طبعا لم يعثروا علي جثته‏!)‏
وكان عمره ستا وثلاثين سنة وسبعة أشهر‏,‏ وولايته علي مصر خمس وعشرون سنة وشهرا واحدا‏..‏ مع أن جماعة من المغالين في حبهم لمذهبه مازالوا يظنون أنه حي وأنه لابد أن يظهر‏,‏ ويحلفون بغيبته‏..‏
ثم أمرت ست الملك بالأموال للأعيان‏(‏ وأمرت بقتل إبن دؤاس وعبديه اللذين قتلا الحاكم‏,‏ والوزير خطير الملك‏.‏ وكل من اطلع علي سرها قتلته‏)‏ فقامت لها الهيبة في قلوب الناس ولا أحد يدري أي الروايتين أصدق‏,‏ رواية المقريزي أم رواية ابن تغري بردي‏.‏ لكن المؤكد أن الحاكم قتل سنة‏1021‏ م‏.‏ وكان قد اتخذ قبل عامين قرارا عجيبا بمصادرة جميع أملاك أخته وأمه وزوجته وحماته وجواريه وخواصه‏,‏ ثم يبدو أنه رجع عن ذلك‏.‏ كما أنه قبل موته بسبع سنوات اختار ابن عمه إلياس واليا للعهد بدلا من ابنه‏,‏ وهذا غريب في أسرته‏!‏
وقد ترك أموالا مذهلة بدليل أن ابنته‏(‏ ست مصر‏)‏ عندما ماتت تركت ثمانية آلاف جارية وغير ذلك‏.‏ وفي عهده ماتت عمته السيدة رشيدة فتركت مليونا وسبعمائه دينار ذهب وآلاف الأشياء الأخري الباهظة الثمن‏!‏
وكان الحاكم غريب الوجه‏,‏ أزرق العينين‏,‏ أجش الصوت‏,‏ مهيب الطلعة‏.‏ مع أن معلمه أطلق عليه في صباه صفة السحلية‏!!‏
‏*‏ الدعوة والدعاية‏:‏
عن الحياة الثقافية عرفنا أن المؤرخ المسبحي كان من أقطاب مصر في العلم والسياسة والإدارة‏,‏ وقد استفاد منه المقريزي في تاريخه‏.‏ ولاه الحاكم علي بعض ولايات الصعيد‏,‏ ثم ديوان الترتيب‏.‏
وكانت الدولة الفاطمية تعتمد أساسا علي الدعوة والدعاية‏,‏ لهذا احتفي المعز بالشاعر ابن هانئ الأندلسي الذي جاء مصر‏,‏ والذي صاغ عقائد الإسماعيلية شعرا‏,‏ مادحا العقيدة وأصحابها‏..‏
كما كان تميم بن المعز شاعرا لطيفا ماهرا مات سنة‏374‏ ه في خلافة أخيه العزيز والد الحاكم‏.‏
وقد استدعي الحاكم المهندس البصري وعالم البصريات أبا علي بن الحسن بن الهيثم‏,‏ لما بلغه عن براعته‏,‏ وعهد اليه بفحص أحوال النيل‏,‏ وكيفية الاستفادة من مياهه وتنظيم جريانها‏.‏ لكن ابن الهيثم ذهب الي الصعيد ورأي أثار الفراعنة‏,‏ وأعلن أنه لايستطيع أن يزيد شيئا علي أعمالها‏,‏ واعتذر للحاكم عن قصوره‏,‏ فولاه بعض الدواوين‏,‏ لكن ابن الهيثم خشي بطش الحاكم فتظاهر حينا بالجنون حتي توفي الحاكم‏.(‏ عن تاريخ ابن العبري ص‏318,317)‏
غير أن الحاكم بأمر الله تروي عن ظروف قتله حكاية مثيرة تزعم أنه أفلت من الاغتيال‏!‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.