انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    المقاومة الإسلامية في العراق تستهدف مناطق حيوية في تل أبيب وبئر السبع بإسرائيل | فيديو    جناح ضيف الشرف يناقش إسهام الأصوات النسائية المصرية في الرواية العربية بمعرض أبو ظبي    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    عيار 21 بعد الانخفاض.. سعر الذهب بالمصنعية اليوم الجمعة في الصاغة    أسعار اللحوم اليوم 3-5-2024 للمستهلكين في المنافذ ومحلات الجزارة    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    إسرائيل: تغييرات في قيادات الجيش.. ورئيس جديد للاستخبارات العسكرية    طائرات الاحتلال تستهدف محيط مسجد "أبو شمالة" في تل السلطان غرب رفح الفلسطينية    ملف يلا كورة.. قرعة كأس مصر.. موعد مباراتي المنتخب.. فوز الزمالك.. وطلب الأهلي    جمال علام: أناشد جماهير الأندية بدعم منتخب مصر.. والاتحاد نجح في حل 70% من المشكلات    خالد الغندور: محمد صلاح «مش فوق النقد» ويؤدي مع ليفربول أفضل من منتخب مصر    إبراهيم سعيد: مصطفى شوبير لا بد أن يكون أساسي فى تشكيل الأهلي علي حساب الشناوي وإذا حدث عكس ذلك سيكون " ظلم "    أحمد الكأس: سعيد بالتتويج ببطولة شمال إفريقيا.. وأتمنى احتراف لاعبي منتخب 2008    «تغير مفاجئ في الحرارة».. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم في مصر والظواهر الجوية المتوقعة    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    «دفاع الشيوخ»: اتحاد القبائل العربية توحيد للصف خلف الرئيس السيسي    «زي النهارده».. اليوم العالمي لحرية الصحافة 3 مايو 1991    جامعة فرنسية تغلق فرعها الرئيسي في باريس تضامناً مع فلسطين    ليفركوزن يتفوق على روما ويضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي    طبيب الزمالك: شلبي والزناري لن يلحقا بذهاب نهائي الكونفدرالية    اليوم.. الأوقاف تفتتح 19 مسجداً بالمحافظات    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    موعد جنازة «عروس كفر الشيخ» ضحية انقلاب سيارة زفافها في البحيرة    تحذير شديد اللهجة حول علامات اختراق الواتساب    ميزة جديدة تقدمها شركة سامسونج لسلسلة Galaxy S24 فما هي ؟    مجلس الوزراء: الأيام القادمة ستشهد مزيد من الانخفاض في الأسعار    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    رسائل تهنئة شم النسيم 2024    الحمار «جاك» يفوز بمسابقة الحمير بإحدى قرى الفيوم    أول ظهور ل مصطفى شعبان بعد أنباء زواجه من هدى الناظر    ماما دهب ل ياسمين الخطيب: قولي لي ماما.. انتِ محتاجة تقوليها أكتر ما أنا محتاجة أسمعها    شايفنى طيار ..محمد أحمد ماهر: أبويا كان شبه هيقاطعنى عشان الفن    حسام موافي يكشف سبب الهجوم عليه: أنا حزين    بسعر 829 جنيها، فاكسيرا توفر تطعيم مرض الجديري المائي    بعد تصدره التريند.. حسام موافي يعلن اسم الشخص الذي يقبل يده دائما    سفير الكويت بالقاهرة: رؤانا متطابقة مع مصر تجاه الأزمات والأحداث الإقليمية والدولية    فلسطين.. قوات الاحتلال تطلق قنابل الإنارة جنوب مدينة غزة    مباراة مثيرة|رد فعل خالد الغندور بعد خسارة الأهلى كأس مصر لكرة السلة    أمين «حماة الوطن»: تدشين اتحاد القبائل يعكس حجم الدعم الشعبي للرئيس السيسي    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    خطوات الاستعلام عن معاشات شهر مايو بالزيادة الجديدة    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    د.حماد عبدالله يكتب: حلمنا... قانون عادل للاستشارات الهندسية    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات    بسبب ماس كهربائي.. إخماد حريق في سيارة ميكروباص ب بني سويف (صور)    بطريقة سهلة.. طريقة تحضير شوربة الشوفان    «يا خفي اللطف ادركني بلطفك الخفي».. دعاء يوم الجمعة لفك الكرب وتيسير الأمور    مدير مشروعات ب"ابدأ": الإصدار الأول لصندوق الاستثمار الصناعى 2.5 مليار جنيه    محافظ الجيزة يزور الكنيسة الكاثوليكية لتقديم التهنئة بمناسبة عيد القيامة    تركيا تفرض حظرًا تجاريًا على إسرائيل وتعلن وقف حركة الصادرات والواردات    القصة الكاملة لتغريم مرتضى منصور 400 ألف جنيه لصالح محامي الأهلي    صحة الإسماعيلية تختتم دورة تدريبية ل 75 صيدليا بالمستشفيات (صور)    أستاذ بالأزهر يعلق على صورة الدكتور حسام موافي: تصرف غريب وهذه هي الحقيقة    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    محافظ جنوب سيناء ووزير الأوقاف يبحثان خطة إحلال وتجديد مسجد المنشية بطور سيناء    أمين الفتوى ب«الإفتاء»: من أسس الحياء بين الزوجين الحفاظ على أسرار البيت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رجال في الميزان..◄ 10 - صلاح الدين «كُتبت معاركه بأقلام من نور على صفحات الذهب»
نشر في فيتو يوم 18 - 08 - 2016

ومازال حديثنا متواصلا مع قراء فيتو في رحاب هذه المجموعة من التراجم لمشاهير أعلام المسلمين عبر التاريخ، للعظة والعبرة من حياة هؤلاء الرجال الذين قدموا الكثير والكثير للأجيال المتعاقبة من بعدهم.. حيث تم جمعها وانتقاؤها من مصادر عدة، ومواقع متفرقة.. وقد شملت هذه التراجم العالم والفقيه والزاهد والواعظ والمحدث والمفسر والمؤرخ والطبيب والداعية، والمرشد والمجاهد...إلخ.
10- الناصر لدين الله.. صلاح الدين الأيوبي

صنع الرجال أعظم صنعة، وبناء الإنسان أشد من بناء ناطحات السحاب، وهناك رجال الواحد منهم بألف، كما أن هناك ألوفاً لا يساوون رجلاً واحداً.
والناس ألفٌ منهمُ كواحدٍ......وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عنا
وفي وسط الظلام الدامس، والأيام الحالكة، والليالي المفعمة بالسواد، يتراءى للناس شعاع من نور الله، فيبعث الله لهم من يجدد لهم أمر دينهم، ويعيد ترتيب شؤون حياتهم، فيقيض الله لهذه الأمة رجالاً يحملون همَّ هذا الدين، فيتركون الدنيا وزينتها، ويجعلون زخرفها وراءهم ظهرياً.

صلاح الدين يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذى الدويني، التكريتي المولد - رحمه الله - كان من هذا الطراز، رجلٌ أمة، وإذا جاز القول فهو إحدى معجزات الإسلام الباهرة، وإحدى آياته الظاهرة، ولكن.. لماذا الحديث عن صلاح الدين الآن؟ أهو تغنّى بالماضي أم بكاء على الأطلال ؟ أم أنه تحسر على الواقع المرير؟
لماذا صلاح الدين؟!
الحق أن الحديث عن صلاح الدين رحمه الله أمر مطلوب، أو قل هو ضرورة إسلامية وفريضة شرعية في هذا الوقت لأمور منها:
أولاً: لأن الأمة اليوم ضلت طريق الهدى، وتنكبت طرق الصلاح، فهي تحتاج إلى من يبين لها السبيل الصحيح والصراط القويم.. وفي هدي السابقين أعظم هداية.

ثانياً: لأن استقراء التاريخ أمر ضروري لتعرف الأمة كيف انتصر السلف، ليسير على الطريق الخلف، ولتعلم كيف أعيدت القدس أولاً لتعمل بنفس الطرقة على إعادتها ثانياً.

ثالثاً: لأن أمتنا في حاجة إلى من تقتدي، في عصر قلت فيه القدوات، وانعدمت فيه البطولات، وتغيرت فيه مفاهيم الرجولة والمروءة والمثل العليا.

رابعاً: لأن أمتنا تنتظر مثيلاً لصلاح الدين ليعيد لها عزتها وكرامتها.
خامساً: لأن القدس في محنة أشبه بما كانت عليه قبل مجيء صلاح الدين.

سادساً: لأن التفاؤل بالنصر أمر مطلوب، ومهما علت دولة الباطل فإنها ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، فلا داعي لليأس، ولا حاجة إلى القنوط، بل العمل العمل، فنحن بحاجة إلى عطاء الأغنياء، وبذل العلماء، وجهاد الأتقياء، ومثابرة الدعاة، وعزائم الرجال، نعم بحاجة إلى لم الشمل، وشحذ الهمم، وتكاتف القوى، ونبذ الخلاف، وتوحيد الصف، وحسن التوكل على الله عز وجل.

الأصل والنشأة:
لم يكن صلاح الدين - رحمه الله - من الأصل العربي الذي يتغنى به كثير من أدعيائه، وإنما كان رحمه الله من عائلة كردية، كريمة الأصل، عظيمة الشرف، ولد في تكريت، وهي بلدة قديمة تقع بين بغداد والموصل، وكان أبوه حاكماً لقلعتتها، والحق أن عراقة النسب لا تشفع لسوء الخلق، ورفعة الحسب لا تغني عن ضعف الدين، وهل كان أكثر عظماء هذه الأمة وبناة هذه الحضارة إلا من مسلمي غير العرب، وسل عن ذلك التاريخ يخبرك بأسماء لامعة كالبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من أهل العلم وقادة الجيوش.

ومن غريب ما وقع، أن ولادة صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب بن شاذي، صادفت إجبار أبيه على الخروج من تكريت، فتشاءم أبوه منه فقال له أحد الحضور: فما يدريك أن يكون لهذا المولود ملكاً عظيماً له صيت ؟!.

هاجر نجم الدين أيوب بأسرته من تكريت إلى الموصل وكان نزوله على عماد الدين زنكي، فأكرمه، ونشأ الطفل صلاح الدين نشأة مباركة، درج فيها على العز، وتربى فيها على الفروسية، وتدرب فيها على السلاح، ونما فيها على حب الجهاد، فقرأ القرآن الكريم وحفظ الحديث الشريف وتعلم من اللغة ما تعلم .

صلاح الدين وزيراً في مصر:
كانت مصر قبل قدوم صلاح الدين إليها مقرًّا لدولة العبيديين (أحفاد عبيد الله بن ميمون القداح اليهودي) والمسماة زورا وبهتانا بالدولة الفاطمية، وكانت مصر في هذا الوقت نهباً للثورات الداخلية بين الطوائف المختلفة، من مماليك أتراك وسودانيين ومغاربة، فطمع فيها الصليبيون، فلما رأى القائد نور الدين محمود هذه الخلافات، وبدا له طمع ملك بيت المقدس أموري الصليبي في دخول مصر، أرسل نور الدين محمود من دمشق إلى مصر جيشا بقيادة أسد الدين شيركوه، يساعده ابن أخيه صلاح الدين، فلما علم الصليبيون بقدوم أسد الدين شيركوه، تركوا مصر، ودخلها أسد الدين، ثم خلفه على وزارتها صلاح الدين .

حيكت المؤامرات من أرباب المصالح، وأصحاب المطامع، ولكن صلاح الدين تغلب عليها كما تغلب على الفتن الخارجية، وبدا لصلاح الدين ظهور الباطنية في مصر، فأسس مدرستين كبيرتين هما المدرسة الناصرية، والمدرسة الكاملية حتى يحول الناس إلى مذهب أهل السنة، تمهيداً للتغيير الذي يريده، إلى أن استتب له الأمر تماما في مصر فخطب للخليفة العباسي على المنابر في الجمع طاعة لأمر نور الدين محمود وتحقيقا لرغبة الأمة كلها .. وعادت مصر إلى حظيرة الخلافة الإسلامية مرة أخرى، وأصبح صلاح الدين سيد مصر، ليس لأحد فيها كلمة سواه.

صلاح الدين والجهاد
كان" صلاح الدين "رحمه الله مفعما قلبه بحب الجهاد شغوفاً به، قد استولى على جوانحه حتى قال عنه الإمام الذهبي في السير: "كانت له همة في إقامة الجهاد وإبادة الأضداد ما سُمِع بمثلها لأحد في الدهر".

وقد هجر رحمه الله من أجل ذلك أهله وولده وبلده، ولم يكن له ميل إلا إليه، ولا حب إلا لرجاله . يقول القاضي بهاء الدين: "كان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد، ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد ديناراً ولا درهماً إلا في الجهاد أو في الأرفاد لصدق وبر يمينه".

إن لكل رجل هِمّة وهمُّة الرجل على قدر ما أهمه، وكأني بابن القيم - رحمه الله يصف صلاح الدين حين قال: "النعيم لا يدرك بالنعيم، وبحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له".

وإذا كانت النفوس كباراً......تعبت في مرادها الأجسام
وهكذا كان صلاح الدين - رحمه الله - كانت حياته كلها جهاد، وكان يعود من غزو إلى غزو، ومن معركة إلى معركة، وقد استغرقت ترجمة ابن الأثير له في كتابه "الكامل في التاريخ" أكثر من 220 صفحة كلها مفعمة بالجهاد، وكانت معركة حطين من معاركه التي كتبت بأقلام من نور على صفحات من ذهب، وسطرت على جبين التاريخ شاهدة له بكل معاني الجهاد والتضحية.

صلاح الدين والقدس
يقول بهاء الدين شداد واصفاً حال صلاح الدين مع القدس: "كان رحمه الله عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله إلا الجبال". وقال أيضاً: "وهو كالوالدة الثكلى، ويجول بفرسه من طلب إلى طلب - ويحث الناس على الجهاد، ويطوف بين الأطلاب بنفسه وينادي " يا للإسلام " وعيناه تذرفان، بالدموع وكلما نظر إلى عكا، وما حل بها من البلاء، اشتد في الزحف والقتال، ولم يطعم طعاماً ألبتة، وإنما شرب أقداح دواء كان يشير بها الطبيب، ولقد أخبرني بعض أطبائه أنه بقي من يوم الجمعة إلى يوم الأحد لم يتناول من الغذاء إلا شيئاً يسيراً لفرط اهتمامه".

وكان من كلامه - رحمه الله: " كيف يطيب لي الفرح والطعام ولذة المنام وبيت المقدس بأيدي الصليبيين؟!.
همم تفادت الخطوب بها......فهُرِعن من بلد إلى بلد
إن صلاح الدين - رحمه الله - كانت له غاية، وهو في غايته لا يرضى بدونها، إنه يتمثل قول القائل:
ونحن أناس لا توسط عندنا......لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا......ومن خطب الحسناء لم يغله المهر
ولقد أراد صلاح الجنة ورضي بها مقراً بدلاً عن الدنيا، وقدم لها المهر غالياً رحمه الله.

وما أن أكرم الله " صلاح الدين " في حطين، حتى جاءته رسالة على لسان المسجد الأقصى جاء فيها:
يا أيها الملك الذي...... لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة......تسعى من البيت المُقَدَّس
كل المساجد طهرت......وإنا على شرفي أُدنس

وأكرم الله بيت المقدس بصلاح الدين كما أكرم صلاح الدين ببيت المقدس ففتحه في 27 رجب عام 583ه، وقام القاضي محيي الدين بن زكي الدين ليخطب أول جمعة بعد قرابة مائة عام، وكان مما قال مخاطباً صلاح الدين وجيشه: " فطوبى لكم من جيش، ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والوقعات البدرية والعزمات الصديقية، والفتوحات العمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية. جددتم للإسلام أيام القادسية، والوقعات اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيكم صلى الله عليه وسلم أفضل الجزاء.

أوصافه
لم يكن "صلاح الدين" رحمه الله ممن يبحث عن ألقاب زائفة، أو دنيا زائلة لكنه كان داعية حق، ورجل معركة، وصاحب عقيدة.. يقول واصفوه: "كان رحمه الله خاشع القلب، غزير الدمعة، إذا سمع القرآن الكريم خشع قلبه ودمعت عينه، ناصراً للتوحيد، قامعاً لأهل البدع، لا يؤخر صلاة ساعة عن ساعة، وكان إذا سمع أن العدو داهم المسلمين خر ساجداً لله قائلاً: " إلهي، قد انقطعت أسبابي الأرضية في دينك ولم يبق إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل".
ومن جميل ما ذكر عنه أنه كان يواظب على سماع الحديث، حتى سمع جزءاً من الحديث وهو واقف بين الصفين، وقال في ذلك - رحمه الله - : "ذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثاً".

كانت أمنيته أن يسود الإسلام كل بلاد الأرض قاطبة .. اسمع إليه يقول: "إنه متى ما يسَّر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسمت البلاد، وأوصيت، وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائره واتبعتهم فيها، حتى لا أبقى على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت! ! ! ".
أيها القائد العظيم.. لقد بعثك الله إلينا لتخَلِّص المسلمين من الذل والهوان.. لتعيد إليهم عِزَّتهم وكرامتهم المسلوبة.. ولتعلِّمهم أن النصر لا يتم إلا بالإيمان بالله ورسوله، وأَنَّ راياتِ الإسلام لن تُرفَع ماداموا متفرقين غير معتصمين بحبل الله.
في سنة 492ه استولى الصليبيون على بيت المقدس، فقتلوا الأطفال واغتصبوا النساء ومثلوا بالشيوخ، وهدموا المساجد، وأحرقوا البيوت، وذبحوا الآلاف من شباب المسلمين الأبرياء، واقتحموا المسجد الأقصى، وقتلوا كل من احتمى به من المسلمين، فقتلوا أكثر من سبعين ألفًا من أئمة المسلمين وعلمائهم وعُبَّادهم وزهادهم ممن فارقوا الأوطان، وجاوروا ذلك الموضع الشريف، ليحتموا به ظنًّا منهم أن الصليبيين لن يقتحموا الأماكن المقدسة.

وبعد هذه المذبحة الوحشية التي حدثت في المسجد الأقصى، أمروا الأسرى فغسلوا شوارع المدينة الملطخة بدماء المسلمين، ودموعهم تنهمر من أعينهم، وظل المسلمون ينتظرون مجاهدًا من مجاهدي الإسلام ينقذ بيت المقدس من أيدي الصليبيين، وبعد حوالي 40 سنة من الزمان، وفي سنة 532ه ولد صلاح الدين يوسف بن أيوب من أسرة كردية عريقة الأصل، في بلدة صغيرة من بلاد العراق تسمى (تكريت) وتولِّى والده ولاية (تكريت) في نفس الليلة التي وُلِد فيها صلاح الدين؛ لإخلاصه ل (عماد الدين زنكي) أتابك الموصل.

رحلت أسرة صلاح الدين إلى الموصل، واستقرت بها، وفيها نشأ صلاح الدين ينعم بخيراتها، ولما وصل إلى سن البلوغ، أرسله والده إلى مدرسة المدينة، فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، وكان صلاح الدين معروفًا بين زملائه بالذكاء الشديد، وهدوء الطبع، وحبه الشديد للمطالعة ودراسة الكتب، ولم يَنْسَ أبوه أن يعلمه الفروسية، ويدربه على استعمال أدوات الحرب، وفنون القتال، فأظهر فيها مهارة حربية كبيرة، أدهشت والده وزملاءه.

كان صلاح الدين يقرأ ويستمع إلى سِيَرِ قادة الحروب من المسلمين الذين يجاهدون في سبيل الله، ويتمني أن يكون واحدًا منهم لينقذ المسلمين من بطش الصليبيين، استجاب الله سبحانه وتعالى دعاءه؛ عندما صحب عمه (أسد الدين شيركوه) على رأس حملة أرسلها (نور الدين محمود) وهو ابن عماد الدين زنكي إلى مصر لحمايتها من أطماع الصليبيين، وأظهر صلاح الدين من الشجاعة والثبات والبأس ما أدهش القادة، وتمَّ النصر لجيش عمه (شيركوه) الذي عينه الخليفة الفاطمي (العاضد) وزيرًا له، وأقام صلاح الدين مع عمه في القاهرة.

وشاءت الأقدار أن يموت (شيركوه) في مارس سنة 1169م، فاختار الخليفة الفاطمي صلاح الدين وزيرًا له بدلاً من عمه وهو في الحادية والثلاثين من عمره، فنشر صلاح الدين العدل بين الناس، وتقرَّب إلى الشعب المصري، يعطف على المساكين، ويساعد الفقراء، حتى أحبوه وأعجبوا بشخصيته.

ولما مات الخليفة الفاطمي تولى صلاح الدين حكم مصر، وثبت ملكه؛ فقضى على عناصر الخيانة فيها، وتخلص من القوى التي هددت سلطانه، ونجح في إزالة الخلاف المذهبي بين المسلمين عن طريق القضاء على الخلافة الفاطمية الشيعية ونشر المذهب السني، ورأى صلاح الدين أن الفرصة قد جاءته ليحقق ما كان يتمناه من إنقاذ المسلمين ورد اعتبارهم، وطرد الصليبيين من بيت المقدس، فأعد جيشًا قويًّا، كامل الأسلحة، كثير العدد، ثم قاد الجيش بنفسه، وسار إلى البلاد الخاضعة للصليبيين وأخذ يحررها واحدة بعد أخرى حتى وصل إلى بيت المقدس، فضرب حوله الحصار؛ مما اضطر الصليبيين إلى تسليم المدينة له.

ودخل جيش صلاح الدين بيت المقدس سنة (583ه - 1188م) تقريبًا، ظافرًا منتصرًا، رافعًا رايات النصر والتوحيد، مكبرًا.. الله أكبر.. الله أكبر، لم يقتل طفلاً أو امرأة أو شيخًا كبيرًا، بل عاملهم بالرحمة والشفقة، وأطلق صلاح الدين سراح الشيوخ والضعفاء، ولم تنهب جيوشه بيتًا من البيوت أو تخرب زرعًا أو تقطع شجرًا، وحينما جمعت غنائم الحرب وقسمت بين الجنود والقادة، تنازل صلاح الدين عن نصيبه للفقراء من المسيحيين، وجعل الأسرى الذي كانوا من حظِّه أحرارًا.

وبينما كان صلاح الدين سائرًا ذات يوم في بعض طرقات مدينة بيت المقدس قابله شيخ مسيحي كبير السن، يعلق صليبًا ذهبيًّا في رقبته وقال له: أيها القائد العظيم لقد كتب لك النصر على أعدائك، فلماذا لم تنتقم منهم، وتفعل معهم مثل ما فعلوا معك؟ فقد قتلوا نساءكم وأطفالكم وشيوخكم عندما غزوا بيت المقدس، فقال له صلاح الدين: أيها الشيخ.. يمنعني من ذلك ديني الذي يأمرني بالرحمة بالضعفاء، ويحرم على قتل الأطفال والشيوخ والنساء، فقال له الشيخ: وهل دينكم يمنعكم من الانتقام من قوم أذاقوكم سوء العذاب؟ فأجابه صلاح الدين: نعم..إن ديننا يأمرنا بالعفو والإحسان، وأن نقابل السيئة بالحسنة، وأن نكون أوفياء بعهودنا، وأن نصفح عند المقدرة عمن أذنب.. فقال الشيخ: نِعْمَ الدين دينكم وإني أحمد الله على أن هداني في أيامي الأخيرة إلى الدين الحق، ثم سأل: وماذا يفعل من يريد الدخول في دينكم؟ فأجابه صلاح الدين: يؤمن بأن الله واحد لا شريك له، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبد ه ورسوله، ويفعل ما أمر الله به، ويبتعد عما نهى الله عنه، وأسلم الرجل وحسن إسلامه، وأسلم معه كثير من أبناء قومه.

وذات يوم كان صلاح الدين يتفقد أحوال جنده؛ فرأى امرأة من الصليبيين تبكي وتضرب على صدرها، فسألها عن قصتها، فقالت: دخل المسلمون في خيمتي وأخذوا ابنتي الصغيرة فنصحني الناس بأن أذهب إليك، وقالوا: إن السلطان صلاح الدين رجل رحيم، فدمعت عينا صلاح الدين، وأمر أحد الجنود أن يبحث عن الصغيرة وعمن اشتراها، ويدفع له ثمنها ويحضرها، فما مضت ساعة حتى وصل الفارس والصغيرة على كتفه، ففرحت الأم فرحًا شديدًا وشكرت صلاح الدين على مروءته وحسن صنيعه.

ولما علمت أوروبا بانتصار القائد صلاح الدين ودخوله بيت المقدس جهزوا جيشًا كبيرًا من الفرسان البواسل والقادة الشجعان؛ لاسترداد بيت المقدس من يد صلاح الدين، ووصلت الجيوش الصليبية إلى بلاد الشام تحت قيادة (ريتشارد قلب الأسد) الذي حاصر عكا ودخلها وغدر بأهلها بعد أن أمنهم، لكنه لم يستطع دخول بيت المقدس، وتحرك ريتشارد في نهاية أكتوبر عام 1191م من (يافا) قاصدًا بيت المقدس، ولكن صلاح الدين حصنها بنفسه، فتراجع ريتشارد وارتفعت الروح المعنوية لدى المسلمين، وتمَّ عقد صلح الرملة بين المسلمين والصليبيين، وكان من شروط الصلح وقف القتال بينهما لمدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، ورجع ريتشارد إلى بلاده يجر أذيال الخيبة.

وبعد أن أتمَّ الله النصر للمسلمين، وخلص بيت المقدس من الصليبيين عاد صلاح الدين إلى مصر بعد أن طال غيابه عنها؛ فبنى المساجد والمدارس، وبنى قلعة فوق هضبة جبل المقطم، وبنى حول القاهرة سورًا عظيمًا من الحجر يحميها من مكائد الأعداء، ثم توجه صلاح الدين يتفقد القلاع والمواقع البحرية، وبعدها توجه إلى دمشق، مارًّا ببيت المقدس، وفي دمشق مرض صلاح الدين واشتد المرض عليه ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة 589ه، وبات في غيبوية طويلة لم يفق منها إلا نادرًا، فاستحضر أحد المقرئين ليقرأ عنده القرآن حتى وصل القارئ إلى قوله تعالى: لا إله إلا هو عليه توكلت.. تبسم وجه صلاح الدين، وتهلل وانتقلت روحه إلى رضوان الله، ودفن صلاح الدين في قلعة دمشق إلى أن شيدت له قبة ضريح في شمال (الكلاسة) شمالي جامع دمشق قرب المدرسة العزيزية التي بناها العزيز عثمان بن صلاح الدين؛ فنقل إليها.

وقد كتب في سيرة صلاح الدين كثير من المؤرخين القدماء والمحدثين مثل: (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية) لابن شداد، و (الناصر صلاح الدين) لسعيد عبد الفتاح عاشور..
صلاح الدين الأيوبي فارس نبيل وبطل شجاع

عرف في كتب التاريخ في الشرق والغرب بأنه فارس نبيل وبطل شجاع وقائد من أفضل من عرفتهم البشرية وشهد بأخلاقه أعداؤه من الصليبيين قبل أصدقائه وكاتبوا سيرته، إنه نموذج فذ لشخصية عملاقة من صنع الإسلام، إنه البطل صلاح الدين الأيوبي محرر القدس من الصليبيين وبطل معركة حطين.

وهذه لمحات من سيرته ومواقف من حياته كما يرويها صاحب وفيات الأعيان أحمد بن خلكان، والقاضي بهاء الدين بن شداد صاحب كتاب "سيرة صلاح الدين" وبن الأثير في كتابه "الكامل".

نسبه:
هو أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي الملقب بالملك الناصر صلاح الدين... اتفق أهل التاريخ على أن أباه وأهله من (دوين) وهي بلدة في آخر أذربيجان وأنهم أكراد روادية، والروادية بطن من الهذبانية، وهي قبيلة كبيرة من الأكراد.

يقول أحمد بن خلكان: قال لي رجل فقيه عارف بما يقول وهو من أهل دوين إن على باب دوين قرية يقال لها (أجدانقان) وجميع أهلها أكراد روادية وكان شاذي جد صلاح الدين قد أخذ ولديه أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخرج بهما إلى بغداد ومن هناك نزلوا تكريت ومات شاذي بها وعلى قبره قبة داخل البلد.
ولد صلاح الدين سنة 532ه بقلعة تكريت لما كان أبوه وعمه بها والظاهر أنهم ما أقاموا بها بعد ولادة صلاح الدين إلا مدة يسيرة، ولكنهم خرجوا من تكريت في بقية سنة 532ه التي ولد فيها صلاح الدين أو في سنة ثلاث وثلاثين لأنهما أقاما عند عماد الدين زنكي بالموصل ثم لما حاصر دمشق وبعدها بعلبك وأخذها رتب فيها نجم الدين أيوب وذلك في أوائل سنة أربع وثلاثين.
يقول بن خلكان: أخبرني بعض أهل بيتهم وقد سألته هل تعرف متى خرجوا من تكريت فقال سمعت جماعة من أهلنا يقولون إنهم أخرجوا منها في الليلة التي ولد فيها صلاح الدين فتشاءموا به وتطيروا منه فقال بعضهم لعل فيه الخيرة وما تعلمون فكان كما قال والله أعلم.

ولم يزل صلاح الدين تحت كنف أبيه حتى ترعرع ولما ملك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي دمشق لازم نجم الدين أيوب خدمته وكذلك ولده صلاح الدين وكانت مخايل السعادة عليه لائحة والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة ونور الدين يرى له ويؤثره ومنه تعلم صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد.

صلاح الدين في مصر
هرب الوزير الفاطمي شاور من مصر من الوزير ضرغام بن عامر بن سوار الملقب فارس المسلمين اللخمي المنذري لما استولى على الدولة المصرية وقهره وأخذ مكانه في الوزارة كعادتهم في ذلك وقتل ولده الأكبر طي بن شاور فتوجه شاور إلى الشام مستغيثا بالملك العادل نور الدين بن زنكي وذلك في شهر رمضان 558ه ودخل دمشق في الثالث والعشرين من ذي القعدة من السنة نفسها فوجه نور الدين معه الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي في جماعة من عسكره كان صلاح الدين في جملتهم في خدمة عمه وهو كاره للسفر معهم وكان لنور الدين في إرسال هذا الجيش هدفان:
أحدهما: قضاء حق شاور لكونه قصده ودخل عليه مستصرخا.
والثاني: أنه أراد استعلام أحوال مصر فإنه كان يبلغه أنها ضعيفة من جهة الجند وأحوالها في غاية الاختلال فقصد الكشف عن حقيقة ذلك.

وكان كثير الاعتماد على شيركوه لشجاعته ومعرفته وأمانته فانتدبه لذلك وجعل أسد الدين شيركوه ابن أخيه صلاح الدين مقدم عسكره وشاور معهم فخرجوا من دمشق في جمادى الأولى سنة 559ه فدخلوا مصر واستولوا على الأمر في رجب من السنة نفسها.

ولما وصل أسد الدين وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها وقتلوا الضرغام وحصل لشاور مقصودة وعاد إلى منصبه وتمهدت قواعده واستمرت أموره غدر بأسد الدين شيركوه واستنجد بالإفرنج عليه فحاصروه في بلبيس، وكان أسد الدين قد شاهد البلاد وعرف أحوالها وأنها مملكة بغير رجال تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام والمحال فطمع فيها وعاد إلى الشام، وأقام أسد الدين بالشام مدة مفكرا في تدبير عودته إلى مصر محدثا نفسه بالملك لها مقررا قواعد ذلك مع نور الدين إلى سنة 562ه..

وبلغ نور الدين وأسد الدين مكاتبة الوزير الخائن شاور للفرنج وما تقرر بينهم فخافا على مصر أن يملكوها ويملكوا بطريقها جميع البلاد فتجهز أسد الدين وأنفذ معه نور الدين العساكر وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين، وكان وصول أسد الدين إلى البلاد مقارنا لوصول الإفرنج إليها واتفق شاور والمصريون بأسرهم والإفرنج على أسد الدين وجرت حروب كثيرة.

وتوجه صلاح الدين إلى الإسكندرية فاحتمى بها وحاصره الوزير شاور في جمادى الآخرة من سنة 562ه ثم عاد أسد الدين من جهة الصعيد إلى بلبيس وتم الصلح بينه وبين المصريين وسيروا له صلاح الدين فساروا إلى الشام.

ثم إن أسد الدين عاد إلى مصر مرة ثالثة وكان سبب ذلك أن الإفرنج جمعوا فارسهم وراجلهم وخرجوا يريدون مصر ناكثين العهود مع المصريين وأسد الدين طمعا في البلاد فلما بلغ ذلك أسد الدين ونور الدين لم يسعهما الصبر فسارعا إلى مصر أما نور الدين فبالمال والرجال ولم يمكنه المسير بنفسه خوفا على البلاد من الإفرنج، وأما أسد الدين فبنفسه وماله وإخوته وأهله ورجاله..
يقول بن شداد: لقد قال لي السلطان صلاح الدين قدس الله روحه كنت أكره الناس للخروج في هذه الدفعة وما خرجت مع عمي باختياري وهذا معنى قوله تعالى {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} (البقرة: 216)..
وكان شاور لما أحس بخروج الإفرنج إلى مصر سير إلى أسد الدين يستصرخه ويستنجده فخرج مسرعا وكان وصوله إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة 564ه ولما علم الإفرنج بوصول أسد الدين إلى مصر على اتفاق بينه وبين أهلها رحلوا راجعين على أعقابهم ناكصين وأقام أسد الدين بها يتردد إليه شاور في الأحيان وكان وعدهم بمال في مقابل ما خسروه من النفقة فلم يوصل إليهم شيئا وعلم أسد الدين أن شاور يلعب به تارة وبالإفرنج أخرى، وتحقق أنه لا سبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور فأجمع رأيه على القبض عليه إذا خرج إليه، فقتله وأصبح أسد الدين وزيرا وذلك في سابع عشر ربيع الأول سنة 564ه ودام آمرا وناهيا وصلاح الدين يباشر الأمور مقرراً لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته إلى الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة نفسها فمات أسد الدين.

وذكر المؤرخون أن أسد الدين لما مات استقرت الأمور بعده للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فبذل الأموال وملك قلوب الرجال وهانت عنده الدنيا فملكها وشكر نعمة الله تعالى عليه، وأعرض عن أسباب اللهو وتقمص بقميص الجد والاجتهاد، استعدادا لمواجهات مستمرة مع الصليبيين من جهة ومع خزعبلات الدولة الفاطمية من جهة أخرى.

هجوم الإفرنج على مصر

ولما علم الإفرنج استقرار الأمر بمصر لصلاح الدين علموا أنه يملك بلادهم ويخرب ديارهم ويقلع آثارهم لما حدث له من القوة والملك واجتمع الإفرنج والروم جميعا وقصدوا الديار المصرية فقصدوا دمياط ومعهم آلات الحصار وما يحتاجون إليه من العدد، ولما رأى نور الدين ظهور الإفرنج ونزولهم على دمياط قصد شغلهم عنها فنزل على الكرك محاصرا لها، فقصده فرنج الساحل فرحل عنها وقصد لقاءهم فلم يقفوا له.

ولما بلغ صلاح الدين قصد الإفرنج دمياط استعد لهم بتجهيز الرجال وجمع الآلات إليها ووعدهم بالإمداد بالرجال إن نزلوا عليهم وبالغ في العطايا والهبات وكان وزيرا متحكما لا يرد أمره في شيء ثم نزل الإفرنج عليها واشتد زحفهم وقتالهم عليها وهو يشن عليهم الغارات من خارج والعسكر يقاتلهم من داخل ونصر الله تعالى المسلمين به وبحسن تدبيره فرحلوا عنها خائبين فأحرقت مناجيقهم ونهبت آلاتهم وقتل من رجالهم عدد كبير.

تأسيس الدولة الأيوبية

واستقرت الأمور لصلاح الدين ونقل أسرته ووالده نجم الدين أيوب إليها ليتم له السرور وتكون قصته مشابهة لقصة يوسف الصديق عليه السلام، ولم يزل صلاح الدين وزيرا حتى مات العاضد آخر الخلفاء الفاطميين 565ه وبذلك انتهت الدولة الفاطمية وبدأت دولة بني أيوب (الدولة الأيوبية).
ولقب صلاح الدين بالملك الناصر وعاد إلى دار أسد الدين فأقام بها، وثبت قدم صلاح الدين ورسخ ملكه.

وأرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته فلم يجبه إلى ذلك وقال أخاف أن يخالف أحد منهم عليك فتفسد البلاد، ثم إن الإفرنج اجتمعوا ليسيروا إلى مصر فسير نور الدين العساكر وفيهم إخوة صلاح الدين منهم شمس الدولة توران شاه بن أيوب، وهو أكبر من صلاح الدين.

و ذكر ابن الأثير ما حدث من الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين باطنا فقال: وفي سنة 567ه حدث ما أوجب نفرة نور الدين عن صلاح الدين وكان الحادث أن نور الدين أرسل إلى صلاح الدين يأمره بجمع العساكر المصرية والمسير بها إلى بلد الإفرنج والنزول على الكرك ومحاصرته ليجمع هو أيضا عساكره ويسير إليه ويجتمعا هناك على حرب الإفرنج والاستيلاء على بلادهم فبرز صلاح الدين من القاهرة في العشرين من المحرم وكتب إلى نور الدين يعرفه أن رحيله لا يتأخر وكان نور الدين قد جمع عساكره وتجهز وأقام ينتظر ورود الخبر من صلاح الدين برحيله ليرحل هو فلما أتاه الخبر بذلك رحل من دمشق عازما على قصد الكرك فوصل إليه وأقام ينتظر وصول صلاح الدين إليه فأرسل كتابه يعتذر فيه عن الوصول باختلال البلاد المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلويين وأنهم عازمون على الوثوب بها وأنه يخاف عليها مع البعد عنها فعاد إليها فلم يقبل نور الدين عذره، وكان سبب تقاعده أن أصحابه وخواصه خوفوه من الاجتماع بنور الدين فحيث لم يمتثل أمر نور الدين شق ذلك عليه وعظم عنده وعزم على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين عنها.

ووصل الخبر إلى صلاح الدين فجمع أهله وفيهم والده نجم الدين أيوب وخاله شهاب الدين الحارمي ومعهم سائر الأمراء وأعلمهم ما بلغه عن عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر منه واستشارهم فلم يجبه أحد منهم بشيء فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين وقال إذا جاء قاتلناه وصددناه عن البلاد ووافقه غيره من أهله فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستعظمه وكان ذا رأي ومكر وعقل وقال لتقي الدين اقعد وسبه وقال لصلاح الدين أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك أتظن أن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا فقال لا فقال و الله لو رأيت أنا وهذا خالك شهاب الدين نور الدين لم يمكنا إلا أن نترجل له ونقبل الأرض بين يديه ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا فإذا كنا نحن هكذا كيف يكون غيرنا وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر على الثبات على سرجه ولا وسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه وهذه البلاد له وقد أقامك فيها وإن أراد عزلك فأي حاجة له إلى المجيء يأمرك بكتاب مع نجاب حتى تقصد خدمته ويولي بلاده من يريد وقال للجماعة كلهم قوموا عنا ونحن مماليك نور الدين وعبيده يفعل بنا ما يريد فتفرقوا على هذا وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر.

ولما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له أنت جاهل قليل المعرفة تجمع هذا الجمع الكثير وتطلعهم على ما في نفسك فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه عن البلاد جعلك أهم الأمور إليه وأولاها بالقصد ولو قصدك لم تر معك أحدا من هذا العسكر وكانوا أسلموك إليه وأما الآن بعد هذا المجلس فسيكتبون إليه ويعرفونه قولي وتكتب أنت إليه وترسل في المعنى وتقول أي حاجة إلى قصدي يجبي نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك واستعمل ما هو أهم عنده والأيام تندرج و الله في كل وقت في شأن و الله لو أراد نور الدين قصبة من قصب سكرنا لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل ففعل صلاح الدين ما أشار به والده فلما رأى نور الدين الأمر هكذا عدل عن قصده وكان الأمر كما قال نجم الدين أيوب وتوفي نور الدين ولم يقصده وهذا كان من أحسن الآراء وأجودها.

توسع الدولة الأيوبية
قال ابن شداد: لم يزل صلاح الدين على قدم بسط العدل ونشر الإحسان وإفاضة الإنعام على الناس إلى سنة 568ه فعند ذلك خرج بالعسكر يريد بلاد الكرك والشوبك وإنما بدأ بها لأنها كانت أقرب إليه وكانت في الطريق تمنع من يقصد الديار المصرية وكان لا يمكن أن تعبر قافلة حتى يخرج هو بنفسه يعبرها فأراد توسيع الطريق وتسهيلها فحاصرها في هذه السنة وجرى بينه وبين الإفرنج وقعات وعاد ولم يظفر منها بشيء ولما عاد بلغه خبر وفاة والده نجم الدين أيوب قبل وصوله إليه.

ولما كانت سنة 569ه رأى قوة عسكره وكثرة عدده وكان بلغه أن باليمن إنسانا استولى عليها وملك حصونها يسمى عبد النبي بن مهدي فسير أخاه توران شاه فقتله وأخذ البلاد منه وبلغ صلاح الدين أن إنسانا يقال له الكنز جمع بأسوان خلقا عظيما من السودان وزعم أنه يعيد الدولة المصرية وكان أهل مصر يؤثرون عودهم فانضافوا إلى الكنز، فجهز صلاح الدين إليه جيشا كثيفا وجعل مقدمه أخاه الملك العادل وساروا فالتقوا وهزموهم وذلك في السابع من صفر سنة 570ه.

وكان نور الدين رحمه الله قد خلف ولده الملك الصالح إسماعيل وكان بدمشق عند وفاة أبيه ثم إن صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أن ولده الملك الصالح صبي لا يستقل بالأمر ولا ينهض بأعباء الملك واختلفت الأحوال بالشام وكاتب شمس الدين ابن المقدم صلاح الدين فتجهز من مصر في جيش كثيف وترك بها من يحفظها وقصد دمشق مظهرا أنه يتولى مصالح الملك الصالح فدخلها في سنة 570ه وتسلم قلعتها وكان أول دخوله دار أبيه، وهي الدار المعروفة بالشريف العقيقي، واجتمع الناس إليه وفرحوا به وأنفق في ذلك اليوم مالا جليلا وأظهر السرور بالدمشقيين وصعد القلعة وسار إلى حلب فنازل حمص وأخذ مدينتها في جمادى الأولى من السنة نفسها ولم يشتغل بقلعتها وتوجه إلى حلب ونازلها في يوم الجمعة آخر جمادى الأولى من السنة وهي المعركة الأولى.

ولما أحس سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي صاحب الموصل بما جرى علم أن صلاح الدين قد استفحل أمره وعظم شأنه وخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد واستقرت قدمه في الملك وتعدى الأمر إليه فأنفذ عسكرا وافرا وجيشا عظيما وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود وساروا يريدون لقاءه ليردوه عن البلاد فلما بلغ صلاح الدين ذلك رحل عن حلب في مستهل رجب من السنة عائدا إلى حماة ورجع إلى حمص فأخذ قلعتها ووصل عز الدين مسعود إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمه الملك الصالح بن نور الدين صاحب حلب يومئذ وخرجوا في جمع عظيم فلما عرف صلاح الدين بمسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة وراسلهم وراسلوه.. واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه ورأوا أن ضرب المصاف معه ربما نالوا به غرضهم والقضاء يجر إلى أمور وهم بها لا يشعرون فتلاقوا فقضى الله تعالى أن هزموا بين يديه وأسر جماعة منهم فمن عليهم وذلك في تاسع شهر رمضان من سنة570 ه عند قرون حماة ثم سار عقيب هزيمتهم ونزل على حلب وهي الدفعة الثانية فصالحوه على أخذ المعرة وكفر طاب وبارين ولما جرت هذه المعركة كان سيف الدين غازي يحاصر أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار..
وعزم على أخذها منه لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين وكان قد قارب أخذها فلما بلغه الخبر وأن عسكره انكسر خاف أن يبلغ أخاه عماد الدين الخبر فيشتد أمره ويقوى جأشه فراسله وصالحه ثم سار من وقته إلى نصيبين واهتم بجمع العساكر والإنفاق فيها وسار إلى البيرة وعبر الفرات وخيم على الجانب الشامي وراسل ابن عمه الصالح بن نور الدين صاحب حلب حتى تستقر له قاعدة يصل عليها ثم إنه وصل إلى حلب وخرج الملك الصالح إلى لقائه أقام على حلب مدة.

المواجهة مع الإفرنجة

في سنة 572ه اسقرت الأمور بمصر والشام للدولة الأيوبية، وكان أخو صلاح الدين شمس الدولة توران شاه قد وصل إليه من اليمن فاستخلفه بدمشق ثم تأهب للغزاة من الإفرنجة، فخرج يطلب الساحل حتى وافى الإفرنج على الرملة وذلك في أوائل جمادى الأولى سنة 573ه وكانت الهزيمة على المسلمين في ذلك اليوم، فلما انهزموا لم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه فطلبوا جهة الديار المصرية وضلوا في الطريق وتبددوا وأسر منهم جماعة منهم الفقيه عيسى الهكاري وكان ذلك وهنا عظيما جبره الله تعالى بمعركة حطين المشهورة.

أقام صلاح الدين بمصر حتى لم شعثه وشعث أصحابه من أثر هزيمة الرملة ثم بلغه تخبط الشام فعزم على العود إليه واهتم بالغزاة فوصله رسول "قليج أرسلان" صاحب الروم يلتمس الصلح ويتضرر من الأرمن فعزم على قصد بلاد ابن لاون وهي بلاد سيس الفاصلة بين حلب والروم من جهة الساحل لينصر قليج أرسلان عليه فتوجه إليه واستدعى عسكر حلب لأنه كان في الصلح أنه متى استدعاه حضر إليه ودخل بلد ابن لاون وأخذ في طريقه حصنا وأخربه ورغبوا إليه في الصلح فصالحهم ورجع عنهم ثم سأله قليج أرسلان في صلح الشرقيين بأسرهم فأجاب إلى ذلك وحلف صلاح الدين في عاشر جمادى الأولى سنة ست وسبعين وخمسمائة ودخل في الصلح قليج أرسلان والمواصلة وعاد بعد تمام الصلح إلى دمشق ثم منها إلى مصر.

معركة حطين
كانت معركة حطين المباركة على المسلمين في يوم السبت 14 ربيع الآخر سنة 583ه في وسط نهار الجمعة وكان صلاح الدين كثيرا ما يقصد لقاء العدو في يوم الجمعة عند الصلاة تبركا بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر فسار في ذلك الوقت بمن اجتمع له من العساكر الإسلامية وكانت تجاوز العد والحصر على تعبئة حسنة وهيئة جميلة وكان قد بلغه عن العدو أنه اجتمع في عدة كثيرة بمرج صفورية بعكا عندما بلغهم اجتماع الجيوش الإسلامية فسار ونزل على بحيرة طبرية ثم رحل ونزل على طبرية على سطح الجبل ينتظر هجوم الصليبيين عليه إذا بلغهم نزوله بالموضع المذكور فلم يتحركوا ولا خرجوا من منزلهم وكان نزولهم يوم الأربعاء 21ربيع الآخر فلما رآهم لا يتحركون نزل على طبرية وهاجمها وأخذها في ساعة واحدة وبقيت القلعة محتمية بمن فيها ولما بلغ العدو ما جرى على طبرية قلقوا لذلك ورحلوا نحوها فبلغ السلطان ذلك فترك على طبرية من يحاصر قلعتها ولحق بالعسكر فالتقى بالعدو على سطح جبل طبرية الغربي منها وذلك في يوم الخميس 22 ربيع الآخر وحال الليل بين المعسكرين قياما على مصاف إلى بكرة يوم الجمعة فركب الجيشان وتصادما والتحم القتال واشتد الأمر وذلك بأرض قرية تعرف بلوبيا وضاق الخناق بالعدو وهم سائرون كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون وقد أيقنوا بالويل والثبور وأحست نفوسهم أنهم في غد يومهم ذلك من زوار القبور ولم تزل الحرب تضطرم والفارس مع قرنه يصطدم ولم يبق إلا الظفر ووقع الوبال على من كفر فحال بينهم الليل بظلامه..
وبات كل واحد من الفريقين في سلاحه إلى صبيحة يوم السبت فطلب كل من الفريقين مقامه وتحقق المسلمون أن من ورائهم الأردن ومن بين أيديهم بلاد العدو وأنهم لا ينجيهم إلا الاجتهاد في الجهاد فحملت جيوش المسلمين من جميع الجوانب وحمل القلب وصاحوا صيحة رجل واحد فألقى الله الرعب في قلوب الكافرين وكان حقا عليه نصر المؤمنين ولما أحس القوم بالخذلان هرب منهم في أوائل الأمر وقصد جهة صور وتبعه جماعة من المسلمين فنجا منهم وكفى الله شره وأحاط المسلمون بالصليبيين من كل جانب وأطلقوا عليهم السهام وحكموا فيهم السيوف وسقوهم كأس الحمام وانهزمت طائفة منهم فتبعها أبطال المسلمين فلم ينج منها أحد واعتصمت طائفة منهم بتل يقال له تل حطين وهي قرية عندها قبر النبي شعيب عليه السلام فضايقهم المسلمون وأشعلوا حولهم النيران واشتد بهم العطش وضاق بهم الأمر حتى كانوا يستسلمون للأمر خوفا من القتل لما مر بهم فأسر مقدموهم وقتل الباقون.

وكان ممن سلم من مقدميهم الملك جفري وأخوه والبرنس أرناط صاحب الكرك والشوبك وابن الهنفري وابن صاحبة طبرية ومقدم الديوية وصاحب جبيل ومقدم الأسبتار.

قال ابن شداد: ولقد حكي لي من أثق به أنه رأى بحوران شخصا واحدا معه نيف وثلاثون أسيرا قد ربطهم بوتد خيمة لما وقع عليهم من الخذلان.

وأما أرناط فإن صلاح الدين كان قد نذر أنه إن ظفر به قتله وذلك لأنه كان قد عبر به عند الشوبك قوم من مصر في حال الصلح فغدر بهم وقتلهم فناشدوه الصلح الذي بينه وبين المسلمين فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وبلغ السلطان فحملته حميته ودينه على أن يهدر دمه.

من مواقف صلاح الدين
لما فتح الله تعالى عليه بنصره في حطين جلس صلاح الدين في دهليز الخيمة لأنها لم تكن نصبت بعد وعرضت عليه الأسارى وسار الناس يتقربون إليه بمن في أيديهم منهم وهو فرح بما فتح الله تعالى على يده للمسلمين ونصبت له الخيمة فجلس فيها شاكرا لله تعالى على ما أنعم به عليه واستحضر الملك جفري وأخاه وأرناط وناول السلطان جفري شربة من جلاب وثلج فشرب منها وكان على أشد حال من العطش ثم ناولها لأرناط وقال السلطان للترجمان قل للملك أنت الذي سقيته وإلا أنا فما سقيته وكان من جميل عادة العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل أو شرب من مال من أسره أمن فقصد السلطان بقوله ذلك ثم أمر بمسيرهم إلى موضع عينه لهم فمضوا بهم إليه فأكلوا شيئا ثم عادوا بهم ولم يبق عنده سوى بعض الخدم فاستحضرهم وأقعد الملك في دهليز الخيمة.

وأحضر صلاح الدين أرناط وأوقفه بين يديه وقال له: ها أنا أنتصر لمحمد منك ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل فسل سيفه فضربه بها فحل كتفه وتمم قتله من حضر وأخرجت جثته ورميت على باب الخيمة، فلما رآه الملك على تلك الحال لم يشك في أنه يلحقه به فاستحضره وطيب قلبه وقال له لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك وأما هذا فإنه تجاوز الحد وتجرأ على الأنبياء صلوات الله عليهم وبات الناس في تلك الليلة على أتم سرور ترتفع أصواتهم بحمد الله وشكره وتهليله وتكبيره حتى طلع الفجر ثم نزل السلطان على طبرية يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر وتسلم قلعتها في ذلك النهار وأقام عليها إلى يوم الثلاثاء.

تحرير عكا وما حولها

ورحل صلاح الدين طالبا عكا فكان نزوله عليها يوم الأربعاء وقاتل الصليبيين بها بكرة يوم الخميس مستهل جمادى الأولى سنة 583ه فأخذها واستنقذ من كان بها من أسارى المسلمين وكانوا أكثر من أربعة آلاف نفس واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع لأنها كانت مظنة التجار وتفرقت العساكر في بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة فأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة وكان ذلك لخلوها من الرجال لأن القتل والأسر أفني كثيرا منهم ولما استقرت قواعد عكا وقسم أموالها وأساراها سار يطلب تبنين فنزل عليها يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى وهي قلعة منيعة فنصب عليها المناجيق وضيق بالزحف خناق من فيها، فقاتلوا قتالا شديدا ونصره الله سبحانه عليهم فتسلمها منهم يوم الأحد ثامن عشرة عنوة وأسر من بقي فيها بعد القتل ثم رحل عنها إلى صيدا فنزل عليها وتسلمها في غد يوم نزوله عليها وهو يوم الأربعاء العشرون من جمادى الأولى وأقام عليها ريثما قرر قواعدها وسار حتى أتى بيروت فنازلها ليلة الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى وركب عليها المجانيق وداوم الزحف والقتال حتى أخذها في يوم الخميس التاسع والعشرين من الشهر المذكور وتسلم أصحابه جبيل وهو على بيروت..

ولما فرغ من هذا الجانب رأى أن قصده عسقلان أولى لأنها أيسر من صور فأتى عسقلان ونزل عليها يوم الأحد السادس عشر من جمادى الآخرة من السنة وتسلم في طريقه إليها مواضع كثيرة كالرملة والداروم وأقام في عسقلان المناجيق وقاتلها قتالا شديدا وتسلمها في يوم السبت نهاية جمادى الآخرة من السنة وأقام عليها إلى أن تسلم أصحابه غزة وبيت جبريل والنطرون بغير قتال وكان بين فتح عسقلان وأخذ الإفرنج لها من المسلمين خمس وثلاثون سنة فإنهم كانوا أخذوها من المسلمين في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 548ه.

تحرير القدس
قال ابن شداد: لما تسلم صلاح الدين عسقلان والأماكن المحيطة بالقدس شمر عن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس المبارك واجتمعت إليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل فسار نحوه معتمدا على الله تعالى مفوضا أمره إليه منتهزا الفرصة في فتح باب الخير الذي حث على انتهازه بقوله من فتح له باب خير فلينتهزه فإنه لا يعلم متى يغلق دونه وكان نزوله عليه في يوم الأحد الخامس عشر من رجب سنة 583ه وكان نزوله بالجانب الغربي وكان معه من كان مشحونا بالمقاتلة من الخيالة والرجالة وحزر أهل الخبرة ممن كان معه من كان فيه من المقاتلة فكانوا يزيدون على ستين ألفا خارجا عن النساء والصبيان ثم انتقل لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي في يوم الجمعة العشرين من رجب ونصب المناجيق وضايق البلد بالزحف والقتال حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم ولما رأى أعداء الله الصليبيون ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع له عنهم وظهرت لهم إمارات فتح المدينة وظهور المسلمين عليهم..
وكان قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم وحماتهم من القتل والأسر وعلى حصونهم من التخريب والهدم وتحققوا أنهم صائرون إلى ما صار أولئك إليه فاستكانوا وأخلدوا إلى طلب الأمان واستقرت الأمور بالمراسلة من الطائفتين وكان تسلمه في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم فانظر إلى هذا الاتفاق العجيب كيف يسر الله تعالى عوده إلى المسلمين في مثل زمان الإسراء بنبيهم وهذه علامة قبول هذه الطاعة من الله تعالى وكان فتحه عظيما شهده من أهل العلم خلق ومن أرباب الخرق والزهد عالم وذلك أن الناس لما بلغهم ما يسره الله تعالى على يده من فتوح الساحل وقصده القدس قصده العلماء من مصر والشام بحيث لم يتخلف أحد منهم وارتفعت الأصوات بالضجيج بالدعاء والتهليل والتكبير وصليت فيه الجمعة يوم فتحه وخطب القاضي محيي الدين محمد بن على المعروف بابن الزكي.

وقد كتب عماد الدين الأصبهاني رسالة في فتح القدس، وجمع كتابا سماه الفتح القسي في الفتح القدسي وهو في مجلدين ذكر فيه جميع ما جرى في هذه الواقعة.

وكان قد حضر الرشيد أبو محمد عبد الرحمن بن بدر بن الحسن بن مفرج النابلسي الشاعر المشهور هذا الفتح فأنشد السلطان صلاح الدين قصيدته التي أولها:
هذا الذي كانت الآمال تنتظر*****فليوف لله أقوام بما نذروا
وهي طويلة تزيد على مائة بيت يمدحه ويهنيه بالفتح.
يقول بهاء الدين بن شداد في السيرة الصلاحية: نكس الصليب الذي كان على قبة الصخرة وكان شكلا عظيما ونصر الله الإسلام على يده نصرا عزيزا، وكان الإفرنج قد استولوا على القدس سنة 492ه ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم صلاح الدين، وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرين دينارا وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية وعن كل صغير ذكر أو أنثى دينارا واحدا فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلا أخذ أسيرا وأفرج عمن كان بالقدس من أسرى المسلمين وكانوا خلقا عظيما وأقام به يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال ويحبو بها الفقهاء والعلماء والزهاد والوافدين عليه وتقدم بإيصال من قام بقطيعته إلى مأمنه وهي مدينة صور ولم يرحل عنه ومعه من المال الذي جبي له شيء وكان يقارب مائتي ألف دينار وعشرين ألفا وكان رحيله عنه يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان من سنة 583ه..

حصار صور
لما فتح صلاح الدين القدس حسن عنده قصد صور وعلم أنه إن أخر أمرها ربما عسر عليه فسار نحوها حتى أتى عكا فنزل عليها ونظر في أمورها ثم رحل عنها متوجها إلى صور في يوم الجمعة خامس شهر رمضان من السنة (583) فنزل قريبا منها وسير لإحضار آلات القتال ولما تكاملت عنده نزل عليها في ثاني عشر الشهر المذكور وقاتلها وضايقها قتالا عظيما واستدعى أسطول مصر فكان يقاتلها في البر والبحر ثم سير من حاصر هونين فسلمت في الثالث والعشرين من شوال من السنة، ثم خرج أسطول صور في الليل فهاجم أسطول المسلمين وأخذوا المقدم والريس وخمس قطع للمسلمين وقتلوا خلقا كثيرا من رجال المسلمين وذلك في السابع والعشرين من الشهر المذكور وعظم ذلك على السلطان وضاق صدره وكان الشتاء قد هجم وتراكمت الأمطار وامتنع الناس من القتال لكثرة الأمطار فجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بالرحيل لتستريح الرجال ويجتمعوا للقتال فرحل عنها وحملوا من آلات الحصار ما أمكن وأحرقوا الباقي الذي عجزوا عن حمله لكثرة الوحل والمطر وكان رحيله يوم الأحد ثاني ذي القعدة من السنة وتفرقت العساكر وأعطى كل طائفة منها دستورا وسار كل قوم إلى بلادهم وأقام هو مع جماعة من خواصه بمدينة عكا إلى أن دخلت سنة 584ه..

ثم نزل على كوكب في أوائل المحرم من السنة ولم يبق معه من العسكر إلا القليل وكان حصنا حصينا وفيه الرجال والأقوات فعلم أنه لا يؤخذ إلا بقتال شديد فرجع إلى دمشق، وأقام بدمشق خمسة أيام. ثم بلغه أن الإفرنج قصدوا جبيل واغتالوها فخرج مسرعا وكان قد سير يستدعي العساكر من جميع المواضع وسار يطلب جبيل فلما عرف الإفرنج بخروجه كفوا عن ذلك.

بقية فتوح الشام
قال ابن شداد في السيرة: لما كان يوم الجمعة رابع جمادى الأولى من سنة 584ه دخل السلطان بلاد العدو على تعبية حسنة ورتب الأطلاب وسارت الميمنة أولا ومقدمها عماد الدين زنكي والقلب في الوسط والميسرة في الأخير ومقدمها مظفر الدين ابن زين الدين فوصل إلى انطرسوس ضاحي نهار الأحد سادس جمادى الأولى فوقف قبالتها ينظر إليها لأن قصده كان جبلة فاستهان بأمرها وعزم على قتالها فسير من رد الميمنة وأمرها بالنزول على جانب البحر والميسرة على الجانب الآخر ونزل هو موضعه والعساكر محدقة بها من البحر إلى البحر وهي مدينة راكبة على البحر ولها برجان كالقلعتين فركبوا وقاربوا البلد وزحفوا واشتد القتال وباغتوها فما استتم نصب الخيام حتى صعد المسلمون سورها وأخذوها بالسيف وغنم المسلمون جميع من بها وما بها وأحرق البلد وأقام عليها إلى رابع عشر جمادى الأولى وسلم أحد البرجين إلى مظفر الدين..
فما زال يحاربه حتى أخربه واجتمع به ولده الملك الظاهر لأنه كان قد طلبه فجاءه في عسكر عظيم، ثم سار يريد جبلة وكان وصوله إليها في ثاني عشر جمادى الأولى وما استتم نزول العسكر عليها حتى أخذ البلد وكان فيه مسلمون مقيمون وقاض يحكم بينهم وقوتلت القلعة قتالا شديدا ثم سلمت بالأمان في يوم السبت تاسع عشر جمادى الأولى من السنة وأقام عليها إلى الثالث والعشرين منه، ثم سار عنها إلى اللاذقية وكان نزوله عليها يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الأولى وهو بلد مليح خفيف على القلب غير مسور وله ميناء مشهور وله قلعتان متصلتان على تل يشرف على البلد واشتد القتال إلى آخر النهار فأخذ البلد دون القلعتين وغنم الناس منه غنيمة عظيمة لأنه كان بلد التجار وجدوا في أمر القلعتين بالقتال والنقوب حتى بلغ طول النقب ستين ذراعا وعرضه أربعة أذرع فلما رأى أهل القلعتين الغلبة لاذوا بطلب الأمان وذلك في عشية يوم الجمعة الخامس والعشرين من الشهر والتمسوا الصلح على سلامة نفوسهم وزراريهم ونسائهم وأموالهم ما خلا الذخائر والسلاح وآلات الحرب فأجابهم إلى ذلك ورفع العلم الإسلامي عليها يوم السبت..
وأقام عليها إلى يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الأولى فرحل عنها إلى صهيون فنزل عليها يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من الشهر واجتهد في القتال فأخذ البلد يوم الجمعة ثاني جمادى الآخرة ثم تقدموا إلى القلعة وصدقوا القتال فلما عاينوا الهلاك طلبوا الأمان فأجابهم إليه بحيث يؤخذ من الرجل عشرة دنانير ومن المرأة خمسة دنانير ومن كل صغير ديناران الذكر والأنثى سواء وأقام السلطان بهذه الجهة حتى أخذ عدة قلاع منها بلاطنس وغيرها من الحصون المنيعة المتعلقة بصهيون، ثم رحل عنها وأتى بكاس وهي قلعة حصينة على العاصي ولها نهر يخرج من تحتها وكان النزول عليها يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة وقاتلوها قتالا شديدا إلى يوم الجمعة تاسع الشهر ثم يسر الله فتحها عنوة فقتل أكثر من بها وأسر الباقون وغنم المسلمون جميع ما كان فيها ولها قليعة تسمى الشغر وهي في غاية المنعة يعبر إليها منها بجسر وليس عليها طريق فسلطت المناجيق عليها من جميع الجوانب ورأوا أنهم لا ناصر لهم فطلبوا الأمان وذلك يوم الثلاثاء ثالث عشر الشهر ثم سألوا المهلة ثلاثة أيام فأمهلوا وكان تمام فتحها وصعود العلم السلطاني على قلعتها يوم الجمعة سادس عشر الشهر.

ثم سار إلى برزية وهي من الحصون المنيعة في غاية القوة يضرب بها المثل في بلاد الإفرنج تحيط بها أودية من جميع جوانبها وعلوها خمسمائة ونيف وسبعون ذراعا وكان نزوله عليها يوم السبت الرابع والعشرين من الشهر ثم أخذها عنوة يوم الثلاثاء السابع والعشرين منه.

ثم سار إلى دربساك فنزل عليها يوم الجمعة ثامن رجب وهي قلعة منيعة وقاتلها قتالا شديدا ورقي العلم الإسلامي عليها يوم الجمعة الثاني والعشرين من رجب وأعطاها الأمير علم الدين سليمان بن جندر وسار عنها بكرة يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر.

ونزل على بغراس وهي قلعة حصينة بالقرب من إنطاكية وقاتلها مقاتلة شديدة وصعد العلم الإسلامي عليها في ثاني شعبان وراسله أهل إنطاكية في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر من البيكار وكان الصلح معهم لا غير على أن يطلقوا كل أسير عندهم والصلح إلى سبعة أشهر فإن جاءهم من ينصرهم وسلموا البلد.

ثم رحل السلطان فسأله ولده الملك الظاهر صاحب حلب أن يجتاز به فأجابه إلى ذلك فوصل حلب في حادي عشر شعبان أقام بالقلعة ثلاثة أيام وولده يقوم بالضيافة حق القيام، وسار من حلب فاعترضه تقي الدين عمر ابن أخيه وأصعدة إلى قلعة حماة وصنع له طعاما وأحضر له سماعا من جنس ما تعمل الصوفية وبات فيها ليلة واحدة وأعطاه جبلة واللاذقية، وسار على طريق بعلبك ودخل دمشق قبل شهر رمضان بأيام يسيرة، ثم سار في أوائل شهر رمضان يريد صفد فنزل عليها ولم يزل القتال حتى تسلمها بالأمان في رابع عشر شوال.

ثم سار إلى كوكب وضايقوها وقاتلوها مقاتلة شديدة والأمطار متواترة والوحول متضاعفة والرياح عاصفة والعدو متسلط بعلو مكانه فلما تيقنوا أنهم مأخوذون طلبوا الأمان فأجابهم إليه وتسلمها منهم في منتصف ذي القعدة من السنة.

الصليبيون في عكا

بلغ صلاح الدين أن الإفرنج قصدوا عكا ونزلوا عليها يوم الاثنين ثالث عشر رجب سنة 585ه فأتى عكا ودخلها بغتة لتقوى قلوب من بها واستدعى العساكر من كل ناحية فجاءته وكان العدو بمقدار ألفي فارس وثلاثين ألف راجل ثم تكاثر الإفرنج واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكا ومنعوا من يدخل إليها ويخرج وذلك يوم الخميس فضاق صدر السلطان لذلك ثم اجتهد في فتح الطريق إليها لتستمر السابلة بالميرة والنجدة وشاور الأمراء فاتفقوا على مضايقة العدو لينفتح الطريق ففعلوا ذلك وانفتح الطريق وسلكه المسلمون ودخل السلطان عكا فأشرف على أمورها ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام وتأخر الناس إلى تل العياضية وهو مشرف على عكا وفي هذه المنزلة توفي الأمير حسام الدين طمان وذلك ليلة نصف شعبان من سنة خمس وثمانين وخمسمائة وكان من الشجعان.

قال ابن شداد سمعت السلطان ينشد وقد قيل له إن الوخم قد عظم بمرج عكا وإن الموت قد فشا في الطائفتين:
اقتلاني ومالكا*****واقتلا مالكا معي
يريد بذلك أنه قد رضي أن يتلف إذا أتلف الله أعداءه، وهذا البيت له سبب يحتاج إلى شرح وذلك أن مالك بن الحارث المعروف بالأشتر النخعي كان من الشجعان والأبطال المشهورين وهو من خواص أصحاب على بن أبي طالب رضي الله عنه تماسك في يوم معركة الجمل المشهورة هو وعبد الله بن الزبير بن العوام وكان أيضا من الأبطال وابن الزبير يومئذ مع خالته عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين وكانوا يحاربون عليا رضي الله عنه فلما تماسكا صار كل واحد منهما إذا قوي على صاحبه جعله تحته وركب صدره وفعلا ذلك مرارا وابن الزبير ينشد:
اقتلاني ومالكا*****واقتلا مالكا معي
يريد الأشتر النخعي.

قال ابن شداد ثم إن الإفرنج جاءهم الإمداد من داخل البحر واستظهروا على الجيوش الإسلامية بعكا وكان فيهم الأمير سيف الدين على بن أحمد المعروف بالمشطوب الهكاري والأمير بهاء الدين قراقوش الخادم الصلاحي وضايقوهم أشد مضايقة إلى أن غلبوا عن حفظ البلد فلما كان يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من سنة 587ه خرج من عكا رجل عوام ومعه كتب من المسلمين يذكرون حالهم وما هم فيه وأنهم قد تيقنوا الهلاك ومتى أخذوا البلد عنوة ضربت رقابهم وأنهم صالحوا على أن يسلموا البلد وجميع ما فيه من الآلات والعدة والأسلحة والمراكب ومائتي ألف دينار وخمسمائة أسير مجاهيل ومائة أسير معينين من جهتهم وصليب الصلبوت على أن يخرجوا بأنفسهم سالمين وما معهم من الأموال والأقمشة المختصة بهم وزراريهم ونسائهم وضمنوا للمركيس لأنه كان الواسطة في هذا الأمر أربعة آلاف دينار..
ولما وقف السلطان على الكتب المشار إليها أنكر ذلك إنكارا عظيما وعظم عليه هذا الأمر وجمع أهل الرأي من أكابر دولته وشاورهم فيما يصنع واضطربت آراؤه وتقسم فكره وتشوش حاله وعزم على أن يكتب في تلك الليلة مع العوام وينكر عليهم المصالحة على هذا الوجه وهو يتردد في هذا فلم يشعر إلا وقد ارتفعت أعلام العدو وصلبانه وناره وشعاره على سور البلد وذلك في ظهيرة يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من السنة وصاح الإفرنج صيحة عظيمة واحدة وعظمت المصيبة على المسلمين واشتد حزنهم ووقع فيهم الصياح والعويل والبكاء والنحيب.

ثم ذكر ابن شداد بعد هذا أن الإفرنج خرجوا من عكا قاصدين عسقلان ليأخذوها وساروا على الساحل والسلطان وعساكره في قبالتهم إلى أن وصلوا إلى أرسوف فكان بينهما قتال عظيم ونال المسلمين منه وهن شديد ثم ساروا على تلك الهيئة تتمة عشر منازل من مسيرهم من عكا فأتى السلطان الرملة وأتاه من أخبره بأن القوم على عزم عمارة يافا وتقويتها بالرجال والعدد والآلات فأحضر السلطان أرباب مشورته وشاورهم في أمر عسقلان وهل الصواب خرابها أم بقاؤها.. فاتفقت آراؤهم أن يبقى الملك العادل في قبالة العدو ويتوجه هو بنفسه ويخربها خوفا من أن يصل العدو إليها ويستولي عليها وهي عامرة ويأخذ بها القدس وتنقطع بها طريق مصر وامتنع العسكر من الدخول وخافوا مما جرى على المسلمين بعكا ورأوا أن حفظ القدس أولى فتعين خرابها من عدة جهات..
وكان هذا الاجتماع يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانين وخمسمائة فسار إليها فجر الأربعاء ثامن عشر الشهر قال ابن شداد وتحدث معي في معنى خرابها بعد أن تحدث مع ولده الملك الأفضل في أمرها أيضا ثم قال لأن أفقد ولدي جميعهم أحب إلى من أن أهدم منها حجرا ولكن إذا قضى الله تعالى ذلك وكان فيه مصلحة للمسلمين فما الحيلة في ذلك قال...
ولما اتفق الرأي على خرابها أوقع الله تعالى في نفسه ذلك وأن المصلحة فيه لعجز المسلمين عن حفظها وشرع في خرابها فجر يوم الخميس التاسع عشر من شعبان من السنة وقسم السور على الناس وجعل لكل أمير وطائفة من العسكر بدنة معلومة وبرجا معينا يخربونه ودخل الناس البلد ووقع فيهم الضجيج والبكاء وكان بلدا خفيفا على القلب محكم الأسوار عظيم البناء مرغوبا في سكنه فلحق الناس على خرابه حزن عظيم وعظم عويل أهل البلد عليه لفراق أوطانهم وشرعوا في بيع ما لا يقدرون على حمله فباعوا ما يساوي عشرة دراهم بدرهم واحد وباعوا اثني عشر طير دجاج بدرهم واحد واختبط البلد وخرج الناس بأهلهم وأولادهم إلى المخيم وتشتتوا فذهب قوم منهم إلى مصر وقوم إلى الشام وجرت عليهم أمور عظيمة واجتهد السلطان وأولاده في خراب البلد كي لا يسمع العدو فيسرع إليه ولا يمكن من خرابه وبات الناس على أصعب حال وأشد تعب مما قاسوه في خرابها وفي تلك الليلة وصل من جانب الملك العادل من أخبر أن الإفرنج تحدثوا معه في الصلح وطلبوا جميع البلاد الساحلية فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما علم من نفس الناس من الضجر من القتال وكثرة ما عليهم من الديون وكتب إليه يأذن له في ذلك وفوض الأمر إلى رأيه وأصبح يوم الجمعة العشرين من شعبان وهو مصر على الخراب واستعمل الناس عليه وحثهم على العجلة فيه وأباحهم ما في الهري الذي كان مدخرا للميرة خوفا من هجوم الإفرنج والعجز عن نقله وأمر بإحراق البلد فأضرمت النيران في بيوته...
وكان سورها عظيما ولم يزل الخراب يعمل في البلد إلى نهاية شعبان من السنة وأصبح يوم الإثنين مستهل شهر رمضان أمر ولده الملك الأفضل أن يباشر ذلك بنفسه وخواصه ولقد رأيته يحمل الخشب بنفسه لأجل الإحراق، وفي يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان أتى الرملة ثم خرج إلى "اللد" وأشرف عليها وأمر بخرابها وخراب قلعة الرملة ففعل ذلك وفي يوم السبت ثالث عشر شهر رمضان تأخر السلطان بالعسكر إلى جهة الجبل ليتمكن الناس من تسيير دوابهم لإحضار ما يحتاجون إليه ودار السلطان حول النطرون وهي قلعة منيعة فأمر بتخريبها وشرع الناس في ذلك.

الصلح مع الصليبيين
ثم ذكر ابن شداد بعد هذا أن الانكتار وهو من أكابر ملوك الإفرنج سير رسوله إلى الملك العادل يطلب الاجتماع به فأجابه إلى ذلك واجتمعا يوم الجمعة ثامن عشر شوال من السنة وتحادثا معظم ذلك النهار وانفصلا عن مودة أكيدة والتمس الانكتار من العادل أن يسأل السلطان أن يجتمع به فذكر العادل ذلك للسلطان فاستشار أكابر دولته في ذلك ووقع الاتفاق على أنه إذا جرى الصلح بيننا يكون الاجتماع بعد ذلك ثم وصل رسول الانكتار وقال إن الملك يقول إني أحب صداقتك ومودتك وأنت تذكر أنك أعطيت هذه البلاد الساحلية لأخيك فأريد أن تكون حكما بيني وبينه وتقسم البلاد بيني وبينه ولا بد أن يكون لنا علقة بالقدس وأطال الحديث في ذلك فأجابه السلطان بوعد جميل وأذن له في العود في الحال وتأثر لذلك تأثرا عظيما قال ابن شداد وبعد انفصال الرسول قال لي السلطان متى صالحناهم لم تؤمن غائلتهم ولو حدث بي حادث الموت ما كانت تجتمع هذه العساكر وتقوى الإفرنج والمصلحة أن لا نزول عن الجهاد حتى نخرجهم من الساحل أو يأتينا الموت هذا كان رأيه وإنما غلب على الصلح.

قال ابن شداد ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح وتم الصلح بينهم يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان سنة 588ه ونادي المنادي بانتظام الصلح وأن البلاد الإسلامية والنصرانية واحدة في الأمن والمسالمة فمن شاء من كل طائفة يتردد إلى بلاد الطائفة الأخرى من غير خوف ولا محذور وكان يوما مشهودا نال الطائفتين فيه من المسرة ما لا يعلمه إلا الله تعالى وقد علم الله تعالى أن الصلح لم يكن عن مرضاته وإيثاره ولكنه رأى المصلحة في الصلح لسآمة العسكر ومظاهرتهم بالمخالفة وكان مصلحة في علم الله تعالى فإنه اتفقت وفاته بعد الصلح فلو اتفق ذلك في أثناء وقعاته كان الإسلام على خطر.

ثم أعطى للعساكر الواردة عليه من البلاد البعيدة برسم النجدة دستورا فساروا عنه وعزم على الحج لما فرغ باله من هذه الجهة وتردد المسلمون إلى بلادهم وجاءوا هم إلى بلاد المسلمين وحملت البضائع والمتاجر إلى البلاد وحضر منهم خلق كثير لزيارة القدس.

بعد الصلح سنة 588ه توجه السلطان إلى القدس ليتفقد أحوالها وتوجه أخوه الملك العادل إلى الكرك وابنه الملك الظاهر إلى حلب وابنه الأفضل إلى دمشق وأقام السلطان بالقدس يقطع الناس ويعطيهم دستورا ويتأهب للمسير إلى الديار المصرية وانقطع شوقه عن الحج ولم يزل كذلك إلى أن صح عنده مسير مركب الانكتار متوجها إلى بلاده في مستهل شوال فعند ذلك قوي عزمه أن يدخل الساحل جريدة يتفقد القلاع البحرية إلى بانياس ويدخل دمشق ويقيم بها أياما قلائل ويعود إلى القدس ومنه إلى الديار المصرية.

قال ابن شداد: وأمرني صلاح الدين بالمقام في القدس إلى حين عوده لعمارة مارستان أنشأه به وتكميل المدرسة التي أنشأها فيه وسار منه ضاحي نهار الخميس السادس من شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ولما فرغ من افتقاد أحوال القلاع وإزاحة خللها دخل دمشق بكرة الأربعاء سادس عشر شوال وفيها أولاده الملك الأفضل والملك الظاهر والملك الظافر مظفر الدين الخضر المعروف بالمشعر وأولاده الصغار وكان يحب البلد ويؤثر الإقامة فيه على سائر البلاد وجلس للناس في بكرة يوم الخميس السابع والعشرين منه وحضروا عندهم وبلوا شوقهم منه وأنشده الشعراء ولم يتخلف أحد عنه من الخواص والعوام وأقام ينشر جناح عدله ويهطل سحاب إنعامه وفضله ويكشف مظالم الرعايا..
فلما كان يوم الاثنين مستهل ذي القعدة عمل الملك الأفضل دعوة للملك الظاهر لأنه لما وصل إلى دمشق وبلغه حركة السلطان أقام بها ليتملى بالنظر إليه ثانيا وكأن نفسه كانت قد أحست بدنو أجله فودعه في تلك الدفعة مرارا متعددة ولما عمل الملك الأفضل الدعوة أظهر فيها من الهمم العالية ما يليق بهمته وكأنه أراد بذلك مجازاته ما خدمه به حين وصل إلى بلده وحضر الدعوة المذكورة أرباب الدنيا والآخرة وسأل السلطان الحضور فحضر جبرا لقلبه وكان يوما مشهودا على ما بلغني.

ولما تصفح الملك العادل أحوال الكرك وأصلح ما قصد إصلاحه فيه سار قاصدا إلى البلاد الفراتية فوصل إلى دمشق في يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة وخرج السلطان إلى لقائه وأقام يتصيد حوالي غباغب إلى الكسوة حتى لقيه وسارا جميعا يتصيدان وكان دخولهما إلى دمشق آخر نهار يوم الأحد حادي عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأقام السلطان بدمشق يتصيد هو وأخوه وأولاده ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الصبا وكأنه وجد راحة مما كان به من ملازمة التعب والنصب وسهر الليل وكان ذلك كالوداع لأولاده ومراتع نزهه ونسي عزمه إلى مصر وعرضت له أمور أخر وعزمات غير ما تقدم.

قال ابن شداد: وصلني كتاب صلاح الدين إلى القدس يستدعيني لخدمته وكان شتاء شديدا ووحلا عظيما فخرجت من القدس في يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة 589ه وكان الوصول إلى دمشق في يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر من السنة وركب السلطان لملتقى الحاج يوم الجمعة خامس عشر صفر وكان ذلك آخر ركوبه، ولما كان ليلة السبت وجد كسلا عظيما وما تنصف الليل حتى غشيته حمى صفراوية وكانت في باطنه أكثر منها في ظاهره وأصبح يوم السبت متكاسلا عليه أثر الحمى ولم يظهر ذلك للناس لكن حضرت عنده أنا والقاضي الفاضل ودخل ولده الملك الأفضل وطال جلوسنا عنده وأخذ يشكو قلقه في الليل وطاب له الحديث إلى قريب الظهر ثم انصرفنا وقلوبنا عنده فتقدم إلينا بالحضور على الطعام في خدمة ولده الملك الأفضل ولم تكن للقاضي الفاضل في ذلك عادة فانصرف ودخلت إلى الإيوان القبلي وقد مد السماط وابنه الملك الأفضل قد جلس في موضعه فانصرفت وما كانت لي قوة في الجلوس استيحاشا له وبكى في ذلك اليوم جماعة تفاؤلا لجلوس ولده في موضعه ثم أخذ المرض يتزيد من حينئذ ونحن نلازم التردد طرفي النهار وندخل إليه أنا والقاضي الفاضل في النهار مرارا وكان مرضه في رأسه وكان من إمارات انتهاء العمر غيبة طبيبه الذي كان قد عرف مزاجه سفرا وحضرا ورأى الأطباء فصده ففصدوه فاشتد مرضه وقلت رطوبات بدنه وكان يغلب عليه اليبس..
ولم يزل المرض يتزايد حتى انتهى إلى غاية الضعف واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن ولم يزل يتزايد ويغيب ذهنه ولما كان التاسع حدثت له غشية وامتنع من تناول المشروب واشتد الخوف في البلد وخاف الناس ونقلوا أقمشتهم من الأسواق وعلا الناس من الكآبة والحزن ما لا تمكن حكايته ولما كان العاشر من مرضه حقن دفعتين وحصل من الحقن بعض الراحة وفرح الناس بذلك ثم اشتد مرضه وأيس منه الأطباء ثم شرع الملك الأفضل في تحليف الناس، ثم إنه توفي بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة 589ه وكان يوم موته يوما لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة لا يعلمها إلا الله تعالى وب الله لقد كنت أسمع من الناس أنهم يتمنون فداء من يعز عليهم بنفوسهم وكنت أتوهم أن هذا الحديث على ضرب من التجوز والترخص إلى ذلك اليوم فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالأنفس.

ثم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء وغسله، وأخرج بعد صلاة الظهر رحمه الله في تابوت مسجى بثوب فوط فارتفعت الأصوات عند مشاهدته وعظم الضجيج وأخذ الناس في البكاء والعويل وصلوا عليه أرسالا ثم أعيد إلى الدار التي في البستان وهي التي كان متمارضا بها ودفن في الصفة الغربية منها وكان نزوله في حفرته قريبا من صلاة العصر.

وأنشد بن شداد في آخر السيرة بيت أبى تمام الطائي وهو:
ثم انقضت تلك السنون*****وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
رحمه الله تعالى وقدس روحه فلقد كان من محاسن الدنيا وغرائبها، وذكر ابن شداد: أنه مات ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما ناصرية وجرما واحدا ذهبا صوريا ولم يخلف ملكا لا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة.

وفي ساعة موته كتب القاضي الفاضل إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالا شديدا وقد حفرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الحناجر وقد ودعت أباك ومخدومي وداعا لا تلاقي بعده وقد قبلت وجهه عني وعنك وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضيا عن الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المعدة ما لم يدفع البلاء ولا ملك يرد القضاء وتدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك لمحزونون يا يوسف وأما الوصايا فما تحتاج إليها والآراء فقد شغلني المصاب عنها وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم والسلام..
من مآثر صلاح الدين الأيوبي

اشتهر صلاح الدين بين المسلمين بكفاحه وجهاده , وبين الأوروبيين بسماحته وعدله , ورغم ذلك لم تقتصر مآثره رحمه الله على جهاده الذي انتهى بتحرير بيت المقدس من أيدي الصليبيين وإن كان هذا شرفا لا يدانيه فيه كثير من العظماء ولا على سماحته التي قلما تخلق بها أحد بعد الأنبياء , وإنما تعددت تلك المآثر , وكثرت كثرة تدعونا لتقديره والثناء عليه.

ونحن لو نظرنا في جهوده في رعاية المسلمين , وإصلاح شئون الدولة الإسلامية لوجدناها لا تقل عظمة عما قام به من جهاد في تحرير كثير من البلاد الإسلامية ولم شعثها , ولا عجب في ذلك , فالقائد العظيم قلما ينجح في الخارج قبل نجاحه في الداخل .

وهذه سطور نبرز فيها من جهوده ومآثره ما عساه أن ينفع العاملين لدين الله , وغيرهم من المسلمين ممن يبتغون الاقتداء بهذا الرجل الذي تبحث أمتنا الآن عن شبيهه؛ ليعيد إليها بعضا من عزتها المسلوبة , وكرامتها المفقودة.

وأول هذه المآثر التي تحمد له رحمه الله على مر التاريخ ما أسداه إلى المسلمين المهاجرين من بلاد المغرب والأندلس تحت ضغط التعذيب والقتل والإبادة على يد الإسبان , إذ شمل هؤلاء بعطفه وحنانه وشفقته.

واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى إنه أمر بأن يوفر لهم كل ما يحتاجون إليه؛ لينسيهم هول ما تعرضوا له من محن , وأنشأ حمامات لهم في الأماكن التي ينزلون بها , يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك , وبنى لهم مارستانا لعلاج من يمرض منهم , ووكل بهم أطباء يتفقدون أحوالهم, وجعل تحت أيديهم خداما , يأمرونهم بالنظر في مصالحهم , وما يحتاجونه من علاج وغذاء , كما وظف الأطباء لزيارة المرضى الذين يستحيون من الذهاب إلى المارستان المجاني , وجعل لمن يمر ببلاده من أبناء السبيل وجبات غذائية في كل يوم .

وأكثر هذه النفقات كانت من ماله الخاص , إذ كان رحمه الله شديد الحرص على الإنفاق في سبيل الله , حتى روي أن صدقة النفل قد استنفذت جميع ما ملكه من الأموال , وأنه مات ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما , وجراما واحدا ذهبا , ولم يخلف دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة .

وهذا العمل النبيل منه لعل في ذكره تذكرة لأهالي البلاد الإسلامية التي عافاها الله من الوقوع تحت نيران الاحتلال؛ ليقوموا بواجبهم تجاه إخوانهم الذين حوصروا في ديارهم أو أخرجوا منها دون ملجأ أو ملاذ.

وثاني هذه المآثر قضاؤه على كثير من الأنظمة والتقاليد الفاسدة والبدع التي عمت مصر أيام الحكم الفاطمي , ومن بينها الضرائب الباهظة غير الشرعية التي أثقلت كاهل المصريين من قبل , تحت مسميات شتى , ولم يُبق منها إلا ما له سند شرعي كالجزية والخراج وعشور التجارة .وثالث تلك المآثر عدله بين رعيته , حيث وصفه من عايشه من العلماء بأنه كان عادلا رءوفا رحيما ناصرا للضعيف على القوي , وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام , يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء , ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل واحد من كبير وصغير وعجوز وهرم وشيخ كبير , وكان يفعل ذلك سفرا وحضرا .

كما كان في جميع زمانه قابلا لما يعرض عليه من الشكاوي, كاشفا لما ينهى إليه من المظالم , وكان يجمع القصص (الشكاوى) في كل يوم , ثم يجلس مع الكاتب ساعة , إما في الليل أو في النهار , ويوقع على كل قصة بما يطلق الله على قلبه , وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع ظلامته , وأخذ قصته , وكشف كربته , كما قال القاضي ابن شداد .

ورابع تلك المآثر عطفه وشفقته على اليتامى , فما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على من خلّفه , وجبر قلبه , وأعطاه راتبه إن كان له من أهله كبير يعتمد عليه وسلمه إليه , وإلا أبقى له من الراتب ما يكفي حاجته , وسلمه إلى من يكفله , ويعتني بتربيته .

وخامس تلك المآثر كرمه وإجلاله للعلم والعلماء , فقد قال قاضيه: إنه كان يكرم من يرد عليه من المشايخ , وأرباب العلم والفضل , وذوي الأقدار, وكان يوصينا لئلا نغفل عمن يجتاز بالخيم من المشايخ المعروفين حتى نحضرهم عنده , وينالهم من إحسانه , وقد جعل في قصره مكانا لبيع الكتب , يفتح يومين من كل أسبوع , وتباع الكتب فيه بأرخص الأثمان .

كما كان مجلا لحفظة القرآن الكريم , وقد مر يوما على صبي صغير بين يدي أبيه , وهو يقرأ القرآن , فاستحسن قراءته , فأوقف عليه وعلى أبيه مزرعة .

وسادس تلك المآثر محافظته على الصلوات الخمس في أوائل أوقاتها حتى قال عنه ابن شداد: فما رأيته صلى إلا في جماعة , ولم يؤخر له صلاة من ساعة إلى ساعة , وكان له إمام راتب ملازم مواظب , فإن غاب يوما صلى به من حضره من أهل العلم , إذا عرفه متقيا متجنبا للإثم .

وكان يواظب على السنن الرواتب , وكان له ركعات يصليها إن استيقظ بوقت من الليل , وإلا أتى بها قبل صلاة الصبح , وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيب فيها ذهنه , وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى .

وسابع تلك المآثر ورعه وعفته وتواضعه , فكان لا يلبس إلا ما يحل لبسه , وتطيب به نفسه كالكتان والقطن والصوف , كما كانت مجالسه مصونة من الحظر , ومنزهة من الهزء والهزل , آهلة بأهل الفضل , وما سُمعت له قط كلمة تسقط , ولا لفظة فظة تسخط , وكان من جالسه لا يعلم أنه جليس السلطان , بل يعتقد أنه جليس أخ من الإخوان , وكان حليما مقيلا للعثرات , متجاوزا عن الهفوات تقيا نقيا وفيا صفيا .

يقول أحد المرافقين له: ولقد كان يسمع من المستغيثين إليه والمتظلمين أغلظ ما يمكن أن يسمع , ويلقى ذلك بالبشر والقبول0
ومع ذلك كان يغضب للكبائر , ولا يغضي عن الصغائر , متشبها برسول الله الذي ما غضب لنفسه قط , وما كان يغضب إلا إذا انتهك حد من حدود الله , ويرشد إلى الهدى , ويهدي إلى الرشاد , ويسدد الأمر , ويأمر بالسداد ,وكان مماليكه وخواصه بل أمراؤه وأجناده أعف من الزهاد .

قال ابن شداد: وأما صبره فلقد رأيته بمرج عكا , وهو على غاية من مرض , اعتراه بسبب كثرة دماميل كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبته , بحيث لا يستطيع الجلوس , وإنما يكون متكئا على جانبه إذا كان في الخيمة , وامتنع من مد الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس , وكان يأمر أن يفرق على الناس , وكان مع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر , يطوف على الأطلاب , ومن العصر إلى صلاة المغرب , وهو صابر على شدة الألم , وقوة ضربان الدماميل , وكنا نعجب من ذلك , فيقول رحمه الله إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل , قال: وهذه عناية ربانية.

وكان طاهر المجلس لا يذكر بين يديه أحد إلا بالخير , وطاهر السمع , فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا بالخير , وطاهر اللسان , فما رأيته أولع بشتم قط , وطاهر القلم , فما كتب بقلمه أذى لمسلم قط , وكان حسن العهد والوفاء , وكان ما يرى شيخا إلا ويرق له , ويعطيه ويحسن إليه , ولم يزل على هذه الأخلاق إلى أن توفاه الله عز وجل إلى مقر رحمته ومحل رضوانه.

تلكم بعض مآثر صلاح الدين الأيوبي جمعت في طياتها الأسوة لكل أمير أو مجاهد أو عابد أو ثري يبتغي الرشاد إلى طريق العزة والنصر والتمكين في الدنيا , ومرضاة الله في الآخرة .
موت صلاح الدين
مات "صلاح الدين" - رحمه الله - كما مات من سبقه من البشر من الأنبياء والمرسلين والدعاة والمصلحين مرض رحمه الله في 16صفر589ه، ووافته المنية في 27صفر589ه، ولئن كانت روحه قد فارقت جسده، وانتقل بجسده وروحه عن دنيا الناس، إلا أن أعماله الخالدة حيّة يذكره الناس بها في كل آن، ويتطلع الناس إلى مثلها في كل مكان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.