هي معركة من أعظم المعارك التي خاضها المسلمون ضد الفرنجة؛ غير أنها لم تشتهر في التاريخ لأسباب تستعصي على الأفهام. بطلها هو الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، وهو ملك إذا ذكر ذُكر معه العدل والزهد والحكمة والرحمة والجهاد؛ فقلما وجد له في تاريخنا نظير، قال عنه ابن الأثير: "طالعت تواريخ الملوك قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين". في العام السابق لتلك المعركة كان الملك العادل قد تعرض للهزيمة أمام جيوش الفرنجة، عندما نزل في البقيعة تحت حصن الأكراد الذي أراد حصاره في طريقه إلى طرابلس لتحريرها؛ لكن الفرنجة باغتوا جيش المسلمين على حين غرة؛ وأعملوا فيه القتل والأسر.. واستطاع نور الدين أن ينجو بنفسه بأعجوبة عبر بحيرة قدس، بالقرب من حمص، بعيدا عن ميدان المعركة بنحو 20 كيلومترا، وإلى هناك تبعه من نجا من جنده، وهناك تعاهد الجميع على الثأر وعلى رأسهم أميرهم الذي أقسم ألا يستظل بسقف حتى يأخذ بثأره وثأر الإسلام. في تلك الأثناء كانت القاهرة تموج بالأحداث الجسام، ففي ظل الضعف الشديد للخليفة الفاطمي العاضد بالله؛ اشتد الصراع بين الوزيرين شاور وضرغام، وكان الأخير قد أفلح في إبعاد خصمه عن منصبه، فما كان من شاور إلا أن توجه من فوره إلى نور الدين عارضا عليه التخلي عن المقاطعات الحدودية، ودفع ضريبة سنوية تعادل ثلث إيرادات البلاد، مع تحمل كافة مصاريف الحملة التي ستعيده إلى منصبه بعد دحر غريمه ضرغام. وكما يروى فقد استخار نور الدين الله في إرسال الحملة، ولما اطمأن قلبه لإرسالها جعل عليها خير قادته أسد الدين شيركوه، ومع تحرك الحملة قام نور الدين بالهجوم على بانياس للتمويه على تحركات جيش شيركوه نحو القاهرة. فور علمه بما تم سارع ضرغام لطلب المساعدة من الملك عموري الأول ملك بيت المقدس؛ لكن أسد الدين كان أسرع منه إذ واجه بجيشه قوات ضرغام وهزمها، وتمكن من قتل ضرغام قرب مقام السيدة نفيسة؛ وأعاد تنصيب شاور، وكان هذا إيذانا ببزوغ دور لنور الدين في مصر؛ لكن شاور تنكر لكل وعوده، بل طلب من أسد الدين العودة إلى الشام؛ فرفض وأقام بجيشه ناحية بلبيس؛ فما كان من شاور إلا أن استنجد بملك بيت المقدس الذي توجه بقواته بعد أن انضمت إليه قوات شاور- إلى بلبيس وحاصرها، وبالقطع فإن ملك بيت المقدس لم يكن ليخرج بجيشه إلى مصر على هذا النحو إلا بعد أن اطمأن إلى أن الهزيمة التي نالها نور الدين يوم البقيعة قد أوهنت قواه بشكل لا يستطيع معه معاودة الهجوم على الفرنجة إلا بعد فترة ليست بالقصيرة. أراد نور الدين أن يسرع بشن الحرب على الفرنجة في الشام حتى يردهم عن مصر، فقام بالاستعداد وتجهيز القوات، حتى قارب ما لديه من مال على النفاد، وكان قد خصص أموالا للإنفاق على العلماء وطلاب العلم وأصحاب الحاجات؛ فنصحه بعض خلصائه أن يستعين بتلك الأموال على استكمال تجهيز الجيش، فرفض رفضا قاطعا قائلا: "والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك". كاتبَ نور الدين أمراء الشام ليأتوا بجنودهم، فأرسل لأخيه قطب الدين مودود، أمير الموصل والجزيرة، وكذلك أرسل إلى أمير ماردين، والأمير فخر الدين، صاحب حصن كيفا، الذي ما إن وصله كتاب نور الدين حتى صارح خلصاءه بنيته في القعود فوافقوه الرأي، ولما كان الغد وجد هؤلاء الندماء فخر الدين يتجهز للخروج بالجيش، فسألوه عما بدل حاله فأجابهم: "إن نور الدين قد سلك معي طريقًا إن لم أُنجِده خرج أهل بلادي عن طاعتي، وأخرجوا البلاد عن يدي، فإنه قد كاتَبَ زهَّادَها وعبَّادها والمنقطعين عن الدنيا، يَذكر لهم ما لقيَ المسلمون من الفرنج، وما نالهم من القتل والأسر والنهب، ويستمد منهم الدعاء، ويطلب أن يحثُّوا المسلمين على الغزاة؛ فقد قَعَد كلُّ واحد من أولئك، ومعه أصحابه وأتباعه، وهم يقرأون كُتبَ نور الدين، ويبكون ويلعنونني ويَدعُون عليَّ، فلا بد من المسير إليه؛ ثم تجهز وسار بنفسه". وكان نور الدين قد كاتبَ العلماء والزهاد والعبّاد يسألهم الدعاء، وأن يحثوا كل من استطاع حمل السلاح على الخروج للجهاد في سبيل الله، وحين اجتمعت الجيوش تحت قيادة نور الدين توجه بها إلى تل حارم، الواقع جنوب غرب أنطاكية في أقصى شمال الشام، وفور علمه بتحرك الجيوش الإسلامية نحو قلعته سارع حاكم قلعة حارم بإرسال الرسل إلى أمراء وملوك الفرنجة يطلب مساعدتهم في رد المسلمين، فاجتمع له ريمون الثالث، أمير طرابلس، وبوهيموند، ملك أنطاكية، وكونستنتين البيزنطي، حاكم كيليكيا، وتوروس، ملك أرمينيا، وجوسلين الثالث، حاكم الرها، وغيرهم من أمراء الفرنجة. اجتمعت قوات الفرنجة بالقرب من ساحل البحر، واختاروا بوهيموند الثالث قائدا عاما للجيوش، وكان نور الدين قد أحكم حصاره حول قلعة حارم، ونصب حولها المجانيق، وجعل الهجوم عليها في هجمات متلاحقة بحيث لا يتمكن المدافعون عنها من التقاط الأنفاس. كانت قلعة حارم تمثل أهمية كبيرة للفرنجة نظرا لتحكمها في الطريق بين أنطاكية وحلب وحمص، وهذا ما يفسر مسارعتهم لنجدتها، وعندما تقدمت جيوشهم نحو حارم كان من الواضح افتقادهم إلى الالتزام بقواعد الانضباط العسكري، وكان نور الدين قد انسحب بقواته تكتيكيا من حارم وعسكر بجيشه بالقرب من ارتاح، وهناك التقى الجيشان. وضع نور الدين محمود وقواده خطة المعركة التي اعتمدت على استدراج فرسان الفرنجة وعزلهم عن بقية الجيش والقضاء عليهم مما سيسهل التعامل بعد ذلك مع بقية الجيش من المشاة. بدأت المعركة بصدام شديد بين ميمنة جيش نور الدين وفرسان الفرنجة، وسرعان ما أظهر المسلمون انكسار ميمنتهم أمام هجمات الفرسان، ما أدى إلى انسحابهم بطريقة أغرت فرسان الفرنجة بتتبعهم، ومن ثم الانفصال عن باقي قوات الجيش الصليبي، وبمجرد أن اندفعت قوات الفرسان خلف ميمنة جيش المسلمين المتقهقرة، اندفعت القوات المتمركزة في القلب في هجوم كاسح على قوات مشاة الفرنجة التي كانت تقوم بحماية ظهور الفرسان، وأوقعت فيها خسائر كبيرة؛ بذلك أصبح فرسان الفرنجة بين شقي الرحى، إذ سرعان ما تحولت ميمنة جيش المسلمين إلى الهجوم، بينما كانت قوات القلب قد أجهزت على المشاة وتحولت هي الأخرى إلى مهاجمة الفرسان من الخلف. وبهذه الخطة أحاط المسلمون بالفرنجة من كل جانب، وألحقوا بهم هزيمة مدوية، وكبدوهم خسائر فادحة قُدِّرت بعشرة آلاف قتيل، ومثل هذا العدد أو أكثر من الأسرى، وكان من بين الأسرى أمير أنطاكية، وأمير طرابلس، وحاكم كيليكيا البيزنطي، وقد أسر جميع الأمراء عدا توروس، أمير أرمينيا، الذي فطن مبكرا لمكيدة المسلمين فلم ينجر بقواته إلى مطاردة ميمنة جيش نورالدين؛ ولكنه تراجع وانسحب بقواته بعد أن شاهد بعينيه كيف سقط فرسان الفرنجة بسهولة في ذلك الكمين الذي أعد لهم بعناية. ويصف ابن الأثير، وكان معاصرا لتلك الأحداث، معركة تل حارم بقوله: "فحينئذٍ حَمِيَ الوطيس، وباشر الحربَ المرءوسُ والرئيسُ، وقاتلوا قتال من يرجو بإقدامه النجاة، وحاربوا حرب من يئس من الحياة، وانقضت العساكر الإسلامية انقضاض الصقور على بغاث الطيور، فمزقوهم بددًا، وجعلوهم قِدَدًا، وألقى الإفرنج بأيديهم إلى الإسار، وعجزوا عن الهزيمة والفرار، وأكثر المسلمون فيهم القتل، وزادت عدة القتلى على عشرة آلاف، وأما الأسرى فلم يحصوا كثرة، وكان منهم الملوك الأربعة". وفي اليوم التالي اتجه نور الدين بقواته إلى قلعة حارم فاستولى عليها دون مقاومة تذكر، وأجلى من بقي فيها من الفرنجة، وكان ذلك في 26 رمضان عام559ه. قبل انقضاء العام كان نور الدين قد حاصر بانياس التي كانت بيد الصليبيين منذ سنة 543 ه ثم تقدم باتجاه طبريا، مما أدى إلى تراخي الحامية الصليبية المتواجدة في بانياس، ثم التف ليبدأ حصار قلعتها، وأخذ الإفرنج في الجمع لمدافعته فلم يستكملوا أمرهم حتى فتحها وشحن قلعتها بالمقاتلة والسلاح. تصالح من بقي من الفرنجة مع نور الدين على أن يؤدوا إليه الجزية، ويشاطروه أعمال طبرية، ووصل الخبر بفتح حارم وبانياس إلى جيش الفرنجة في مصر فانهارت معنوياتهم، وانكسر حصارهم لجيش أسد الدين في بلبيس، مما مهد الطريق بعد ذلك لضم مصر لحكم الملك العادل نورالدين محمود؛ لتكون -بعد ذلك- منطلقا لتحرير بيت المقدس على يد رجل من رجال نور الدين هو يوسف ابن أيوب المشتهر بصلاح الدين.