بعد قرابة مئة وسبعين عاما قضتها مدينة أنطاكية تحت حكم الفرنجة، تفتح المدينة مجددا على يد قائد من أعظم القادة في تاريخ الإسلام، إنه الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري، وكان الفتح الأول للمدينة على أيدي المسلمين عقب معركة اليرموك بقيادة الصحابي الجليل المبشر بالجنة أبي عبيدة عامر بن الجراح، في العام الخامس عشر الهجري على عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. وتقع المدينة على الضفة اليسرى لنهر العاصي على بعد ثلاثين كيلومترا من شاطئ البحر، وتتبع لواء الإسكندرونة تحت السيادة التركية منذ عام 1939م، بعد أن كانت المدينة جزءا من القطر العربي السوريّ. ويرجع فضل إنشاء المدينة إلى "سيلوقس نيكاتور" أحد قادة جيش الإسكندر الأكبر الذين اقتسموا تركته، وكان ذلك سنة 301ق.م؛ تخليدا لذكرى والده "أنطيوخوس"، وظلت المدينة تحت حكم المسلمين حتى عام491ه؛ ثم كانت أولى المدن سقوطا في أيدي الفرنجة الذين عملوا على تغيير معالمها الإسلامية فور دخولها؛ حتى إنهم حولوا مساجدها إلى كنائس، كما عملوا على تغيير التركيبة الديموغرافية بها فطردوا أعدادا كبيرة من مسلميها، واستقدموا الأرمن والروم والأرثوذكس من المدن المجاورة لها ليستوطن هؤلاء ونسلهم أنطاكية لآماد بعيدة. وكانت المدينة قد احتلت لفترة من قبل الروم البيزنطيين سنة351ه، ويومها شهدت المدينة مقتلة عظيمة للسكان المسلمين، ونزوح البقية إلى خارج المدينة، واستقدام المسيحيين إليها من كل حدب وصوب، وللحقيقة فإن أول من لجأ إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للمدينة كان معاوية بن أبي سفيان، فترة ولايته على الشام إذ "قرر أن يُعطِي فيها وحَوْلها إقطاعاتٍ ضخمة لمن ينتقل إليها من المسلمين؛ فرحل إليها المسلمون من دمشق وحمص ولبنان، بل ومن العراق، ليستوطنوا في هذه المنطقة، وبالتالي تغيرت التركيبة السكانية في المنطقة لصالح المسلمين، وصارت المدينة إسلامية آمنة، خاصةً بعد تثبيت الأقدام الإسلامية في المدن التي تقع في شمالها مثل مرعش، وطرسوس، وملطية، وغيرها". استمر وضع المدينة على ما هو عليه حتى عام 468ه بعد معركة ملاذكرد الشهيرة؛ حيث استقبلت المدينة أعدادا كبيرة من المسلمين السلاجقة والأرمن بعد تراجع الدور البيزنطي في المنطقة، واستغلال الأرمن ذلك بخروجهم من تبعية الدولة البيزنطية، وقيامهم فيما بعد بالاستيلاء على الرها وأنطاكية في عامين متتاليين، قبل اندحارهم عنها على يد سليمان بن قتلمش، مؤسس دولة سلاجقة الروم بسبع سنين، وكانت عودة أنطاكية للحكم الإسلامي بعد نحو119 سنة متصلة من حكم البيزنطيين والأرمن. في أواخر عام 490ه حاصر "بوهيموند" النورماندي، أحد أبواب أنطاكية بأربعة آلاف فارس، بينما حاصرت قوات تم إنزالها في اللاذقية آتية من قبرص بابين آخرين من أبواب المدينة، في حين استعصى الباب الرابع على الحصار بسبب وقوعه قبالة جبل شاهق وعر، واستمر الحصار حتى اشتد برد الشتاء وعزت المؤن؛ فهلك الجند، وذبحت الجياد لتؤكل، وروي أن الجثث قد أكلت من شدة الجوع. بعد حصار دام قرابة السبعة أشهر استطاع بوهيموند، دخول المدينة، إذ نجح في استمالة أحد الحراس من المتحولين من المسيحية إلى الإسلام -ويبدو أنه كان مكرها- وفور دخوله ارتكب بوهيموند، مذبحة بشعة بحق الأهالي المسلمين. "وقد خرج مدد من الموصل بقيادة الأمير "كربوغا" لرفع الحصار عن المدينة، ولكنه وصل بعد سقوط المدينة بأربعة أيام، أي أنه أتى لكي يحاصر الصليبيين أنفسهم، وشدد عليها الحصار حتى ساءت أحوال الصليبيين، إذ وجدوا أنفسهم محاصرين من الداخل والخارج، وقلت المؤونة لديهم مما اضطرهم إلى أكل الجيف وأوراق الشجر، ودفع الصليبيين إلى إرسال وفد إلى "كربوغا" يطلبون منه الأمان ليخرجوا من أنطاكية، غير أن "كربوغا" رفض طلبهم وقال لهم: لا تخرجون إلا بالسيف، وهذا ما دفع ببطرس الناسك لاختلاق قصة الحربة المقدسة، وقال بأنه رأى القديس أندراوس يقول له بأن الحربة المقدسة التي طعن بها المسيح عند صلبه -حسب اعتقادهم- موجودة في أنطاكية". ويروى أن الحربة قد استخرجت بمعرفة بطرس نفسه، ثم إنهم وضعوها على رأس الجيش لرفع معنويات الجند الذين أفلحوا -هذه المرة- في كسر المسلمين وتفريقهم"، وكان الإمبراطور البيزنطي "اليكسوس كومنينونس الأول" في طريقه أيضا لمساعدة الصليبيين؛ ولكنه عاد عندما وصلته أخبار سقوط المدينة". واقتسم "بوهيموند" و"ريموند" حكم المدينة لبعض الوقت، ثم استأثر "بوهيموند" بالحكم، الذي استمر في سلالته حتى سقوط المدينة في يد بيبرس في رمضان عام666ه كما سنبين. بمجرد أن تولى بيبرس الحكم اجتمع عزمه على تأديب من تحالف مع التتار المدحورين في عين جالوت، وكان أبرز هؤلاء مملكة أرمينيا الصغرى، وإمارة أنطاكية، فخرج على رأس جيشه واستولى على يافا بعد معركة كبيرة، ثم انتقل إلى قلعة القشيف، وكانت تحت سيطرة فرسان المعبد؛ فحاصرها لعشرة أيام حتى استسلمت؛ فأطلق النساء والأطفال إلى صور، وأسر الرجال المقاتلين، وواصل بيبرس مسيره حتى كونتية طرابلس فوجدها منيعة الحصون، فتركها وانطلق إلى أنطاكية بعد أن قسم الجيش إلى ثلاثة أقسام، ووجه القسم الأول إلى السويدية من أجل قطع الإمدادات التي ستأتي من جهة البحر، وجعل القسم الثاني على طريق الشام لقطع الطريق على الأرمن إذا هم حاولوا نجدة أنطاكية، واستبقى بيبرس القسم الثالث لحصار أنطاكية وتولى قيادته بنفسه. في هذا الوقت كان "بوهيموند" السادس خارج أنطاكية، مخلفا وراءه قائد الحامية "سيمون مانسل"، الذي خرج في قوة من رجاله مهاجما القوات المحاصرة؛ فوقع في الأسر، وعلى مدار أيام هاجم بيبرس بقواته أسوار المدينة حتى استطاع إحداث ثغرة نفذت منها القوات إلى داخل المدينة، ودارت رحى معركة كبيرة حدثت فيها مقتلة عظيمة في صفوف الفرنجة، وكانت غنائم المسلمين في هذا اليوم لا تعد، حتى قيل إن النقود كيلت بالمكيال، وأسر من غلمان الفرنجة ونسائهم ما يجل عن الحصر، وعُد فتح أنطاكية أكبر فتح يحققه المسلمون بعد فتح بيت المقدس. ولما كان "بوهيموند" السادس بطرابلس عندما سقطت أنطاكية، ونظرا لإحكام حصار قوات بيبرس للمدينة وإحكام إغلاق أبوابها على من فيها بعد سقوطها في يد المسلمين، لم تصل أخبار سقوط المدينة إلى "بوهيموند"، فأراد بيبرس أن يتولى بنفسه ذلك الأمر؛ فأرسل إليه برسالة ساخرة من إنشاء "ابن عبد الظاهر" جاء فيها: "وكتابنا هذا يتضمن البشرى لك بما وهبك الله من السلامة وطول العمر بكونك لم تكن لك في هذه المدة بأنطاكية إقامة، فلو كنت بها كنت إما قتيلاً وإما أسيرًا، وإما جريحًا وإما كسيرًا". وقبل أن يغادر الملك الظاهر ركن الدين بيبرس أنطاكية، جاءه رسول ملك أرمينيا الصغرى "كيليكيا" يعرض عليه اتفاقا يتضمن انسحاب الأرمن من كافة المدن الإسلامية التي استولوا عليها أثناء الغزو التتري للشام، ومنها مدن مرزبان ورعبان وبهنسا، كما ترك الصليبيون حصن "بغراس" مندحرين إلى كونتية طرابلس، وبذلك عاد شمال الشام إلى سيطرة المسلمين بعد معاناة دامت لفترة طويلة تحت حكم الفرنجة. بهذا النصر العظيم استطاع بيبرس البندقداري أن يستهل مسيرته المظفرة في نصرة الإسلام، وتحرير المدن العربية الواقعة تحت سيطرة الصليبيين المدينة تلو الأخرى؛ ليصير بطلا من أبطال الإسلام العظام الذين يتردد ذكرهم إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.