إن تقديم الاستقالة وقبولها ليس عملية تعاقدية تنتهي بها خدمة الموظف بل هي عملية إدارية، يثيرها الموظف بطلب الاستقالة، وتنتهي الخدمة بالقرار الإداري الصادر بقبول هذا الطلب الذي هو سبب هذا القرار، إلا أنه لما كان طلب الاستقالة هو مظهر من مظاهر إرادة الموظف في اعتزال الخدمة، والقرار بقبول هذا الطلب هو بدوره مظهر من مظاهر إرادة الرئيس الإداري في قبول هذا الطلب وإحداث الأثر القانوني المترتب على الاستقالة. إذن ركن الإرادة الصادر عن الموظف الراغب في ترك العمل بنية إحداث أثر قانوني وهو الانسحاب وترك المركز القانوني بما يترتب على ذلك من أثار قانونية، ويترتب على ذلك أن هذه الإرادة لا يعتد بها إلا أن صدرت من شخص مكتمل الإرادة ودون عيب يشوبها فلا اعتداد بالإرادة في هذه الحالة إلا إذا صدرت سليمة وحرة وقاطعة ومبرأة من الشوائب لأن الإرادة في حقيقة الأمر وجوهره هي عمل قانوني يتجه به صاحبه إلى إحداث أثر قانوني معين وهو يشكل ركن السبب في القرار الصادر بقبول الاستقالة. وتمثل الاستقالة عملا إراديا من جانب الموظف، وتظل متعلقة بمشيئته، ويصبح هو المتحكم الأوحد في إنهاء علاقته بالعمل، فالتعبير عن الاستقالة لا يكون مجرد إخبار وإنما تعبير عن إرادة تحمل في طياتها كافة مقومات التصرف القانوني، فيتعين أن يكون الموظف على بينة من أمره، وأن تظل حريته في تقديم استقالته كاملة، فلا يعتد بالاستقالة الصادرة بناء على تدليس أو غلط، أو بناء على تهديد صادر من جهة الإدارة بإيقاع الأذي للموظف دون حق حتى ولو لم يصبه أذي فعلي. ويتعين في جميع الأحوال أن تكون الاستقالة واضحة الدلالة على رغبة الموظف المؤكدة في ترك العمل نهائيا، أي خالية من الغموض والإبهام، فالاستقالة لا تفترض الاستقالة. ولهذا كان لزامًا أن يصدر طلب الاستقالة وقرار قبولها برضاء صحيح يفسده ما يفسد الرضا من عيوب، ومن ضمن العيوب المفسدة والمبطلة للاستقالة عيب الإكراه إذا توافرت عناصره، وهناك صور عديدة للإكراه منها أن يقدم الموظف الطلب تحت سلطان رهبة تبعثها الإدارة في نفسه دون حق، أو اتهامه في واقعة تنال من عرضه وشرفه خشية من أن يشيع هذا الاتهام ويلحقه الأذي من جرائه فيحدث دون روية وتحت تأثير هذه الرهبة فيتقدم بطلب الاستقالة أثناء التحقيق وقبل انتهاءه لتصوره بأن هناك خطرًا جسيمًا عليه. وبما أن الإكراه عيبا مؤثرًا في صحة القرار الإداري فإنه يخضع لتقدير القضاء في حدود رقابته المشروعية للقرارات الإدارية. وحال تقديم الاستقالة تحت وطأة ظروف وقيود معينة، ثم تم العدول عنها خلال الفترة القانونية المسموح بها، يتعين معه إهدار تلك الاستقالة وعدم التعويل عليها ويكون صحيحًا أن سبب التقدم بها هو عدم احتمالية الظرف الذي وقع فيه الموظف حال التقدم بها لصدوره بناء على طلب أو ضغط نفسي شديد لا يعبر صدقا وحقًا تعبيرًا سليمًا عن إرادة حرة. وأعطي المشرع للموظف حق العدول عن الاستقالة من خلال مهلة أربعة عشر يومًا تبدأ في التاريخ التالي لتقديم طلب الاستقالة، بحيث يكون اليوم التالي لها هو يوم قبول الاستقالة حكمًا بموجب القانون وقد أحسن المشرع في صياغة هذا النص من وجهين، الوجه الأول أنه قدر مدة أسبوعين فقط لاعتبار الاستقالة مقبولة بموجب القانون، وهي مدة عادلة ومنصفة للطرفين، فهي في الغالب ليست مدة طويلة تؤدي إلى الإضرار بالموظف أوضياع السبب الذي قدم من أجله الاستقالة، وفي الوقت نفسه هي فرصة مناسبة وكافية جدًا لجهة الإدارة وبالتالي يكون المشرع قد وازن بين مصلحة الطرفين في الاستقالة موازنة جيدة. وتثور المشكلة في حال قيام الموظف بالتعبير عن رغبته في سحب الاستقالة، وهناك صورتان، الأولى سحب الاستقالة قبل صدور قرار القبول وقبل مضي المهلة، والصورة الثانية سحب الاستقالة بعد صدور قرار القبول أو بعد مضي المهلة. وفي حال طلب الموظف سحب استقالته قبل صدور القرار وقبل مضي المهلة، فيمكن القول بإن إرادة الموظف لم تصادف قبولًا من الإدارة وبالتالي لا تزال استقالته غير منتجة لأي أثر قانوني لأنها مشروطة بصدور قرار قبول الاستقالة، فلا تزال استقالة الموظف خاضعة له ومن حقه أن يعدلها أو يلغيها بالصورة التي توافق إرادته. ويشترط ألا تكون الاستقالة وليدة تسرع أو عدم تروي، وأن عباراتها تكون قاطعة الدلالة على رغبة الموظف في ترك العمل، أما إذا قام الموظف بالعدول عن الاستقالة خلال فترة وجيزة، فهذا لا يستفاد منه الرغبة المؤكدة على إنهاءه علاقته بوظيفته وإنما على العكس تدل على عدم جدية الاستقالة حتى وأن صادف الطلب المقدم منه على عبارات قاطعة الدلالة على رغبته في ترك العمل. وتحديد القانون للمدة التي يجب على الإدارة الرد فيها على طلب الاستقالة، إنما هي لحماية مصلحة الموظف وحقه في الاستقالة ، أما حال عدوله فيها عقب صدور قرار بقبولها يصبح للإدارة الحق في الرد من خلال مركزها القانوني الجديد. وفي كل الأحوال لا يجوز قبول استقالة الموظف إذا كان قد أحيل إلى التحقيق أو أوقف عن العمل أو اتخذت ضده أي إجراءات تأديبية أخرى، فإذا انتهت هذه الإجراءات إلى عدم مسئوليته أو مجازاته بغير عقوبة الفصل جاز قبول استقالته. المستشار هدى الأهواني نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية.