يعرض الدكتور محمود رمضان - خبير الآثار والعمارة الإسلامية، مدير مركز الخليج للبحوث والدراسات التاريخية، موضوعًا مهمًا بصفحته «الصالون الثقافي» عن متحف الأرميتاج في سان بطرسبرج في روسيا الاتحادية بقلم الدكتور أحمد الصاوي - أستاذ الآثار والفنون الإسلامية، في إطار دعوة العالمين الجليلين لنشر الوعي بأهمية التراث الإنساني العالمي والحفاظ عليه. وحول الحدث يقول الدكتور الصاوي: شهدت روسيا في تاريخها الحديث تقلبات سياسية حادة تحولت عبرها من الإمبراطورية القيصرية إلى الاتحاد السوفييتي قبل أن ينتهي بها المطاف إلى روسيا الاتحادية أو الاتحاد الروسي، ورغم بحور الدم التي أريقت والتبدلات الحادة في العقائد السياسية بقي متحف الأرميتاج نقطة التلاقي الوحيدة في تاريخ هذا البلد الكبير، فكان موضع عناية القياصرة والبلاشفة والقوميين الروس على حد سواء. واكتسب المتحف الذي يعد أكبر متاحف العالم من حيث عدد المقتنيات (أكثر من 3 ملايين تحفة) اسمه "الأرميتاج" من تلك الكلمة الفرنسية التي تعني "الخلوة"،عندما قررت الإمبراطورة الروسية "كاترينا الثانية" إنشاء أرميتاج أو خلوة خاصة بها في قصرها الشتوي بمدينة سان بطرسبرج عاصمة قياصرة روسيا، حيث كانت تلجأ إليها مع وصيفاتها فرارا من تقاليد البلاط الرسمية التي كانت تكرهها. وعلى الرغم من أن الإمبراطورة الروسية لم تتحل بذوق فني رفيع- حسبما يذكر المؤرخون- إلا أنها أحاطت نفسها بعدد من المستشارين الفنيين الذين ساعدوها على تحويل "الخلوة" إلى متحف يضم أجمل التحف الفنية وأكثرها قيمة، وذلك بدءا من عام 1764م. وبجهد حثيث من الإمبراطورية الروسية تزايدت أعداد المقتنيات بالمتحف، حيث تم شراء أكثر من 25 لوحة فنية يعود أغلبها للمدرسة الفلامندرية والهولندية التي ازدهرت بفضل نجاح "جان فان أيك" في استخدام الزيت كوسيط لتثبيت الألوان عوضا عن زلال البيض. وكان القياصرة الروس يوفدون السفراء في العواصم الأجنبية لشراء أفضل المجموعات الفنية المعروضة للبيع، ولعل أشهرها تلك المجموعة التي كانت بحوزة السير "روبرت والبول". فبعد أن فشل النائب جون وايلكس في إقناع مجلس العموم البريطاني بشراء المجموعة في عام 1777م ووضعها بمعرض خاص بالمتحف البريطاني نجحت الإمبراطورة الروسية "كاترين العظمى" في شرائها على مدى 20 عاما،لتوضع في متحف الأرميتاج ومعها عدة أعمال للفنان "ليوناردو دافنشي" وجان فان أيك ورافاييل تم شراؤها من إيطاليا، بل وتمت أكبر عملية شراء لأغلب أعمال الفنان رمبرانت. وبعد ثورة أكتوبر 1917م أعلن الأرميتاج ملكا للدولة السوفييتية وضمت إليه مجموعات المتاحف التي كانت منتشرة في ضواحي العاصمة والمجموعات الخاصة التي أممت فتضاعفت مقتنياته رغم أن الحكومة في عهد ستالين باعت أكثر من ألفي تحفة فنية "برجوازية" من بينها أعمال رافاييل فنان عصر النهضة الشهير. ويتكون متحف الأرميتاج من خمسة مبان كبيرة تقع كلها على نهر نيفا، أقدمها جميعا القصر الشتوي الذي صممه الإيطالي راستريللي واستغرق تشييده عشر سنوات قبل افتتاحه عام 1762م كمقر شتوي للقيصر، وقد حول في 1917 إلى متحف كبير. والمبنى الثاني هو "الأرميتاج" الصغير أو الخلوة التي شيدت برغبة من كاترينا الثانية بجوار القصر الشتوي في عام 1764م، وهو مشيد بأعمدة رخامية بيضاء وأرضيته من الفسيفساء التي تحتوي أحجارا كريمة،وكانت باكورة مقتنياته 225 لوحة اشتريت من تاجر ألماني بمبلغ زهيد لا يساوي ثمن لوحة واحدة منها الآن. ويلي ذلك مبنى الأرميتاج القديم والمشيد في 1787م لحفظ اللوحات والأيقونات الثمينة،وكان دخوله قاصرا على الأسرة المالكة وزوارها من الملوك. والمبنى الرابع هو مبنى الأرميتاج الجديد الذي شيد وافتتح كمتحف في 1852م بأمر من القيصر نيقولا الثاني، وهو أجمل المباني الخمسة،حيث تم تشييده على عشرة أعمدة على شكل تماثيل ضخمة لعمالقة يحملون على أكتافهم الكرة الأرضية، وقام بتصميم التماثيل ونحتها المثال الروسي ألكسندر توربينييف. أما المبنى الأخير فهو مبنى مسرح الأرميتاج الذي تم بناؤه عام 1802م وقام بتصميمه المهندس الإيطالي جياكومو كوارنجي واستغرق تشييده نحو 20 عاما. ويعمل بالمتحف 1500 شخص منهم 160 عالما وخبيرا في الفنون والآثار يعملون في معهد خاص بالمتحف ويتولون صيانة وترميم المقتنيات والبحث عن معروضات جديدة ودراسة المقتنيات وتقديم المعلومات عنها للزوار الذين يتجاوز عددهم 5 ملايين زائر سنويا. وتحتوي مباني الأرميتاج الخمسة على 350 قاعة عرض تعرض فيها 15 ألف لوحة فنية و12 ألف تمثال و600 ألف قطعة أثرية وأكثر من مليون قطعة من المسكوكات والأسلحة وعشرات الآلاف من أندر الأيقونات المسيحية،بينما تختزن بقية المقتنيات في مخازن خاصة أو تعرض في فروع متاحف الأرميتاج المقامة في أمستردام بهولندا ولاس فيجاس بالولايات المتحدة بعدما أغلق فرع الأرميتاج في لندن بصفة نهائية في عام 2007م. وتتوزع معروضات المتحف على قاعات لعرض حضارات وحقب تاريخية مختلفة،فهناك قاعة الحضارات البدائية وحضارات العالم القديم،وقاعات لحضارات الشرق تضم الحضارات الفرعونية والبابلية والإسلامية والهندية والصينية، وقاعات للفنون الأوروبية،وقاعات للحضارات اليونانية والرومانية، وقاعة كبيرة للفنون الروسية، وقاعة لتطور الأسلحة عبر التاريخ، فضلا عن قاعات لأعمال مشاهير الفنانين. وتضم معروضات الفن الإسلامي بعضا من أندر التحف الإسلامية التي آلت لملكية المتحف بطرق عدة، منها الشراء وأيضا بطريق الإهداء من الحكام المسلمين، فضلا عن الغنائم التي حصلت عليها جيوش روسيا القيصرية في حروبها ضد كل من تركياوإيران، وأثناء غزوها لمناطق آسيا لوسطى أو ما يعرف اليوم بالجمهوريات الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي. وفضلا عن النسخ النادرة من القرآن الكريم والمخطوطات العربية والإسلامية، وخاصة الموضحة بالصور، يقتني الأرميتاج مجموعة متميزة من النسيج الإسلامي من أبرزها قطع من نسيج "التابستري" أو الأقمشة المزخرفة بالنسج، وهي من إنتاج مصر خلال القرون الهجرية الأولى، وتعرف لذلك باسم "القباطي"،ومنها قطع من الصوف وأخرى من الكتان الذي نسجت زخارفه بالصوف أو الحرير. وهناك أيضا مجموعة كبيرة من التحف الزجاجية الإسلامية المموه بالمينا المتعددة الألوان وأغلبها ينتمي لعصر المماليك في مصر والشام. أما مجموعات الخزف الإسلامي بالأرميتاج فهي ثرية للغاية، وتجمع بين تحف من إنتاج أقصى الشرق الإسلامي في تركستان الشرقية، وأخرى من إنتاج إيرانوتركيا ومصر، فضلا عن الخزف الأندلسي، ومن أهمها أطباق من الخزف المينائي المتعدد الألوان والذي اشتهرت إيران بإنتاجه في عصر السلاجقة وبلاطات خزفية من إنتاج قاشان والري وقدور من خزف البريق المعدني الأندلسية،ومن أهمها قدر من طراز "الهمبرا" تمت صناعته بغرناطة،وهو يحتوي على عبارات دعائية بالخط الكوفي تمتزج بزخارف نباتية متداخلة الأفرع والأوراق. وفي عام 2008م نظم الأرميتاج معرضا عرف باسم "العالم الإسلامي من الصين إلى أوروبا"، وعرض فيه 300 من أنفس مقتنيات المتحف من الفنون الإسلامية تعود للفترة الواقعة بين القرنين السابع والتاسع عشر للميلاد، من بينها لوحات و69 قطعة من النسيج الإسلامي الفاخر وصناديق ومصنوعات من المعادن المختلفة. واحتوى المعرض الذي أقيم بقاعة نيقولاي أربعة أقسام تاريخية بالأول منها معروضات للفترة من القرن الهجري الأول وحتى غزوات المغول وشمل الثاني الفترة من بداية غزوات المغول إلى القرن العاشر الهجري، بينما كانت معروضات القسم الثالث للفترة الواقعة بين القرنين العاشر والثالث عشر الهجريين. أما القسم الأخير فخصص لإبراز معالم العلاقات الدبلوماسية والعسكرية بين العالم الإسلامي وروسيا، فعرضت الغنائم التي حصلت عليها جيوش روسيا في حروبها ضد تركياوإيران وممالك آسيا الوسطى وأيضا الهدايا الدبلوماسية، ومن أبرزها "خيمة بخارى" التي نصبت وسط المعرض، وهي هدية قدمها "عبد الأحد خان" أحد الحكام المسلمين في أوزبكستان للقيصر الروسي ألكسندر الثالث في عام 1893م.