الكلمات المغلوطة في صفحات التاريخ تفسد تاريخ الأمم وتشوه أشخاصًا ذوى مكانة بارزة في مجتمعاتهم وتلصق بهم أفعالًا منافية للأعراف والتقاليد والمبادئ المجتمعية والدينية. ويعتبر أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعى التنوخى المعري، المعروف ب«أبو العلاء المعري»، الشاعر والفيلسوف والأديب العباسي، والدكتور مصطفى محمود، العالم المصري، أبرز من طالتهم هذه الشائعات والمغالطات التاريخية والاتهامات بالإلحاد والكفر رغم أن الواقع يؤكد أنهم أكثر إسلامًا من كل من كالوا لهم الاتهامات. الفيلسوف الزاهد ولد أبو العلا المعري، في معرة النعمان ببلاد الشام «سوريا حاليًا» واستمد اسمه منها، وفقد بصره في الرابعة من عمره، على إثر إصابته بمرض الجدري، وبدأ يقرض الشعر في سن مبكرة، ودرس علوم اللغة والأدب والحديث والتفسير والفقه والشعر والنحو، ويدل شعره ونثره على أنه كان عالمًا بالأديان والمذاهب وعقائد الفرق، وأنه كان آية في معرفة التاريخ والأخبار. زاول المعري، مهنة الشاعر والفيلسوف والمفكر الحر منذ بلوغه الحادية عشر من عمره، وفى أواخر عام 398 هجرية 1007 ميلادية سافر إلى بغداد فزار دور كتبها وجمعته عدة لقاءات مع علمائها، كما اتخذ له عددًا كبيرًا من التلاميذ الذين كانوا يحرصون على الاستماع إلى محاضراته عن الشعر والنحو والعقلانية. وعاد «المعري»، إلى مسقط رأسه معرة النعمان، في عام 400 هجرية، 1009 ميلادية، وشرع في التأليف والتصنيف وظل ملازمًا بيته معتزلًا الناس، وعاش بعد اعتزاله زاهدًا في الدنيا، معرضًا عن لذاتها، لا يأكل لحم الحيوان حتى قيل إنه لم يأكل اللحم طيلة 45 عامًا، لذلك لقب ب«رهين المحبسين» أي محبس العمى ومحبس البيت، حتى وافته المنية عن عمر يناهز ال86 عامًا، ودفن في منزله بمعرة النعمان. تعد حقوق العقل أو «المنطق» من الموضوعات المتكررة في فلسفته إن لم تكن الأهم على الإطلاق، وتدور ضد ادعاءات العادات والتقاليد والسلطة، وكانت هي المدخل الرئيسى لاتهامه بالإلحاد. وصف بعض الباحثين، المعرى ب«المفكر المتشائم»، وقالوا إنه «كان مشككًا في معتقداته ومنددًا بالخرافات في الأديان، وفى الوقت ذاته يؤمن بالربوبية ولكنه يعتبر الدين خرافة ابتدعها القدماء، لا قيمة لها إلا لأولئك الذين يستغلون السذج من الجماهير، وهذا لا يمنع أنه كان يؤمن بوجود الله وكونه هو الإله الخالق». كما يرى بعض الباحثين، أن المعري، انتقد العديد من عقائد الإسلام، مثل الحج، ووصفه بأنه «رحلة الوثني»، واعتقد أن طقوس تقبيل الحجر الأسود في مكةالمكرمة من خرافات الأديان. ونسب بعض المستشرقين أقوالًا إلى المعري، مفادها أنه رفض «الوحى الإلهي»، وأن عقيدته كانت عقيدة الفيلسوف والزاهد، الذي يتخذ العقل دليلًا أخلاقيًا له، والفضيلة هي مكافأته الوحيدة. وعلى الجانب الآخر دافع العديد من العلماء والأدباء عن أبى العلا المعري، ونفوا عنه تهمة الإلحاد، ومن هؤلاء «بنت الشاطئ» وهى الأديبة عائشة عبد الرحمن، التي تقول عن أبى العلاء: « أكثر مصنفاته عن الزهد والعظات وتمجيد الله سبحانه وتعالى، وديوان (اللزوم) نفسه يؤكد إيمانه الصادق، وأناشيد ضراعته للخالق، وشهد له الذين عرفوه عن قرب بنقاء العقيدة ورسوخ الإيمان". وقال الأديب الكبير الدكتور طه حسين، إن «أبا العلاء هداه عقله إلى أن لهذا العالم خالقًا، وإلى أن هذا الخالق حكيم لا يشك في ذلك، وهو إذا تحدث عن هذا الخالق الحكيم تحدث عنه في لهجة صادق يظهر فيها الإخلاص واضحًا جليًا». ويصفه الإمام شمس الدين الذهبي، ب«العلامة وشيخ الآداب، وصاحب التصانيف السائرة، والمتهم في نحلته»، ويروى الذهبي، حديث عن غرس النعمة قال فيه: «حدثنا الوزير أبو نصر بن جهير، حدثنا المنازى الشاعر قال: اجتمعت بأبى العلاء، فقلت: ما هذا الذي يروى عنك؟، قال: حسدونى وكذبوا على» كما نفي شيخ المحققين محمود شاكر تهمة الزندقة عن شيخ المعرة لافتا إلى أن أول من اتهمه بالكفر جاء بعد رحيله ب200 عام. صاحب العلم والإيمان أما الدكتور مصطفى محمود، فإلصاق تهمة الإلحاد به، أو نفيها عنه، لا تحتاج إلى أقوال من مؤيدين أو معارضين، فتناول الرجل هذا الأمر بنفسه في كتابه «رحلتى من الشك إلى الإيمان» وبالتحديد في الفصل الأول الذي جاء تحت عنوان «الله»،. وروى مصطفى محمود حقيقة الأمر كاملة بقوله: «كان ذلك من زمن بعيد لست أذكره، ربما كنت أدرج من الثالثة عشرة إلى الرابعة عشرة وربما قبل ذلك في مطالع المراهقة، حينما بدأت أتساءل في تمرد: تقولون إن الله خلق الدنيا لأنه لا بد لكل مخلوق من خالق ولا بد لكل صنعة من صانع ولا بد لكل موجود من موجد.. صدقنا وآمنا.. فلتقولوا لى إذن من خلق الله.. أم أنه جاء بذاته». ومن خلال هذه التساؤلات بدأت رحلة شك الدكتور مصطفى محمود في وجود الخالق، وهو الأمر الذي قوبل باستهجان المحيطين به لهذه التساؤلات والآراء المنافية لاعتقاداتهم، والتي يصفها في نفس الفصل من كتابه بقوله: «كنت أقول هذا فتصفر من حولى الوجوه وتنطلق الألسن تمطرنى باللعنات وتتسابق إلى اللكمات عن يمين وشمال، ويستغفر لى أصحاب القلوب التقية ويطلبون لى الهدى، ويتبرأ منى المتزمتون ويجتمع حولى المتمردون». وخاض الدكتور مصطفى محمود معتركًا صعبًا دخل من خلاله لمدة 30 عامًا في غياهب الإلحاد مع من كانوا على شاكلته، وغابت عنه كل الحقائق وكان زهوه بنفسه وإعجابه بفصاحته ورجاحة عقله هو الجواد الجامح الذي امتطاه فاقتحم به هذا المضمار المشبع بالمخاطر والآثام. يصف المفكر الكبير هذا الجانب بقوله: «نغرق معا في جدل لا ينتهى إلا ليبدأ ولا يبدأ إلا ليسترسل، وتغيب عنى خلال تلك الأيام الحقيقة الأولى وراء ذلك الجدل، إن زهوى بعقلى الذي بدأ يتفتح وإعجابى بموهبة الكلام ومقارعة الحجج التي انفردت بها، كان هو الحافز والمشجع والدافع دائما، وليس البحث عن الحقيقة ولا كشف الصواب». وفى الفصل ذاته من كتاب «رحلتى من الشك إلى الإيمان» يعترف الدكتور مصطفى محمود بإلحاده، ويقول: «لقد رفضت عبادة الله لأنى استغرقت في عبادة نفسى وأعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكرى مع انفتاح الوعى وبداية الصحوة من مهد الطفولة». كان إلحاد الدكتور مصطفى محمود، شيئًا نستطيع أن نطلق عليه «زلة قدم» لشاب أعجب بنفسه، وأحتاج الأمر إلى 3 حقب لكى يعود إليه صوابه ويعرف أن لهذا الكون خالقًا وإلهًا واحدًا، وعن هذه السنوات يتحدث محمود قائلًا: «احتاج الأمر إلى 30 سنة من الغرق في الكتب وآلاف الليالى من الخلوة والتأمل والحوار مع النفس وإعادة النظر ثم إعادة النظر في إعادة النظر، ثم تقليب الفكر على كل وجه لأقطع فيه الطريق الشائكة من الله والإنسان إلى لغز الحياة إلى لغز الموت إلى ما أكتب من كلمات على درب اليقين». فهل كانت رحلة الدكتور مصطفى محمود، من الشك في كل شيء إلى «درب اليقين» والإيمان بوحدانية الخالق ووجوده، رحلة ممهدة وطريق مفروش بالورود، وعن هذه النقطة يقول: «لم يكن الأمر سهلا، لأنى لم أشأ أن آخذ الأمر مأخذًا سهلا، ولو أنى أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودنى لأعفيت نفسى من عناء الجدل، ولقادتنى الفطرة إلى الله». لم تكن الرحلة سهلة، ليس لأن الدكتور مصطفى محمود، أراد أن يجعلها صعبة ولكن هناك أسبابًا أخرى، أفصح عنها بقوله: «جئت في زمن تعقد فيه كل شيء وضعف صوت الفطرة حتى صار همسا وارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغرورًا واعتدادًا». وكما دخل الدكتور مصطفى محمود، إلى غياهب الإلحاد بنفسه، خرج إلى رحاب نور الإيمان واليقين أيضًا بنفسه، وعاش ما تبقى له من عمره عالمًا مؤمنًا زاهدًا يعرف لكل شيء حقه ويدرك أن وراء هذا الكون خالقًا قادرًا يسير كل شىء بمقدار الأهم من ذلك أن الرجل الذي درجة التضيف في ناهية حياته وأثري المكتبة العربية والإسلامية بما لم يثره بها كل من يزالون يطعنون في دين الرجل بعد رحيله.