المدرسة التي كانت مصنعًا للرجال صارت وكرًا للأمية والجهل لا يختلف اثنان ولا يتناطح عنزان، على أن المنظومة التعليمية في مصر متدهورة ومتدنية إلى أبعد الحدود، وليس «صفر مريم وقريناتها» عنكم ببعيد، كما لايختلف اثنان ولا يتناطح عنزان أيضا، على أن الحكومات المتعاقبة متورطة بشكل مباشر في هذا التدهور وذاك التدنى، كما لا يختلف اثنان ولا يتناطح عنزان «كلاكيت تالت مرة»، على أن الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم البلاد والعباد، بعد ثورة 25 يناير 2011،لم تكن لا تمتلك رؤية جادة وصادقة في إصلاح ما أفسده المتقدمون، وكأن هناك رغبة في إبقاء الأوضاع على ما هو عليه، وعلى المتضرر أن يذهب بأولاده إلى وطن يحترم التعليم ويقدره تقديرا. منذ سنوات طوال، نقرأ ونسمع كلاما على غرار: « آن الأوان لكي نعيد النظر في منظومة التعليم التي ترهلت على كل المستويات، وباتت تخرج لنا الملايين من الأميين وغير المؤهلين لسوق العمل بشتي تخصصاته...الحقيقة باتت واضحة للعيان، فالمدارس لم تعد مؤسسات تربوية لإعداد النشء وتثقيفه وتعليمه وتنمية مهاراته.. بل أصبحت أماكن طرد يهرب منها الأولاد والبنات.. وتفرغ المدرسون للدروس الخصوصية التي تعود الأجيال الجديدة على الحفظ والتلقين بحثا عن المجموع بدلا من الفهم وإعمال العقل»، ورغم ذلك لم يشعر أي نظام سياسي بالحرج، ولم تصب أية حكومة بالقلق، ولم يكلف أىُ منهما نفسه بوضع رؤى وسياسات طموحة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ما يشى بأن استمرار تردى العملية التعليمية يصب في مصلحة أطراف أخرى، كأصحاب المدارس والجامعات الخاصة، الذين لم يضيفوا للتعليم شيئا يذكره لهم التاريخ، ولكنهم أضافوا إلى أرصدتهم البنكية في الداخل والخارج، ومن ثم فإن أي إصلاح قد يتم إنجازه في مدارس وجامعات الغلابة، يقلل فرص وجودهم في مجتمع يتجه إلى كراهية التعليم بالسليقة. ومنذ سنوات طوال نقرأ كلاما على غرار: «كارثة بكل المقاييس أن تختفي من المدارس الأنشطة المختلفة، من ملاعب يمارس فيها التلاميذ هواياتهم خلال حصص التربية الرياضية ومن المكتبات الثقافية وحجرات الأنشطة كالرسم والصلصال والهوايات الزراعية والتدبير المنزلي وغيرها من أشياء كانت ومازالت ضرورية في بناء الإنسان..كما اختفي الطابور المدرسي صباحا والذي يعلم الانضباط وغرس حب الوطن من خلال تحية العلم يوميا.. بالإضافة إلى تنمية مواهب الطلاب في الخطابة من خلال كلمات الصباح مثل قراءة الصحف ونشرة الأخبار وإلقاء حكمة اليوم».. ورغم ذلك لم تقرر أي حكومة من الحكومات المتعاقبة، بما فيها حكومة «محلب» الأخيرة بوزاراتها الأربعة للتعليم، قبل أن يتم اختزالها في اثنتين في الحكومة الجديدة، أن تأخذ زمام المبادرة، أو أن تعيد الشيء إلى أصله، بل حدث كل ما هو نقيض لذلك، فتآكلت مساحة المدارس.. الحكومية لاستيعاب الأعداد الهائلة، والخاصة.. بحثا عن مكاسب مادية جديدة في ظل غياب رقابى مؤلم، حتى امتلك الإخوان والسلفيون المدارس في عموم محافظات مصر، وحرموا تحية علم مصر. ومنذ سنوات طوال نقرأ كلاما على غرار: «فقدت المدارس قيمتها وأهميتها في إعداد أجيال المستقبل بطريقة علمية وسوية بعيدا عن مافيا الدروس الخصوصية الذين قدموا لنا نموذجا جديدا وفريدا للمدرس الذي لا يهتم إلا بما يدخل جيبه من كل حصة.. وبالتالي فقد الهيبة التي كانت له زمان في قلوب تلاميذه.. وكان قدوة في العطاء والعمل ونموذجا نحاول تقليده.. وفجأة ذهب كل ذلك».. ورغم ذلك بقيت مافيا الدروس الخصوصية وصارت واقعا لا يمكن تجاهله أو غض الطرف عنه، وصارت مقدمة على المدرسة، كما سقطت أسطورة المدرس الذي كاد أن يكون رسولا، وغدت خرافة من الخرافات. ويكفى أن الوزير الجديد في أولى تصريح له بعد أداء اليمين الدستورية وجه كلامه للمدرسين قائلًا:«اشتغلوا الصبح في المدرسة وأعطوا الدروس الخصوصية في المساء! ولعل الفارق بين التعليم في العقود السابقة والتعليم في عصرنا هو نفس الفارق بين وزير المعارف الدكتور طه حسين ووزير التعليم الجديد.!! ومنذ سنوات طويلة نسمع ونقرأ كلاما على غرار: «التعليم قضية أمن قومي، والتعليم هو بوابة العلم... وكل دروس التاريخ تؤكد لنا أن قيمة الأمم والشعوب تتحدد بقدر علمها وعملها وليس بقدر ثرواتها وتعداد سكانها، ولهذا فإن الأمم العظيمة هي التي تبني ثقافتها على العلم والعمل حيث إن الامتزاج بين العلم والعمل هو مصدر القوة الحقيقية لأي أمة تتسلح بهما لأنها عندما تسعي للعلم فإنها تعمل وعندما تعمل فإنها تتعلم.... وتلك هي ركائز بلوغ النهضة وصنع التقدم في كل عصر وزمان»... ورغم ذلك لم يهتم أحد بهذا الكلام، بل الأدهى من ذلك، لم يعد لدينا تعليم أو ثقافة، والتشكيل الوزارى الأخير أكبر دليل. ومنذ سنوات طوال نقرأ ونسمع كلاما على غرار: «ونحن إزاء عصر جديد لانملك خيار التخلف عن مجاراته بكل معطياته واستحقاقاته ويتحتم علينا أن نسارع بإجراء مراجعة شاملة للعملية التعليمية في كافة مراحلها من أجل صياغة جديدة يتم من خلالها استبعاد أساليب التلقين في تدريس المناهج وأيضا استبعاد أساليب الاستجواب في أسئلة الامتحانات»، ورغم ذلك رفعت وزارة التعليم «العقم» شعارا لها، وأبقت على كل الأساليب السيئة في العلمية التعليمية، و»على المتضرر ضرب دماغه في الحيط». ورغم أن الدستور ينص في مادته 19 على: «أن التعليم حق لكل مواطن، وهدفه بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير، وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز.. وتلتزم الدولة بمراعاة أهدافه في مناهج التعليم ووسائله وتوفيره وفقا لمعايير الجودة العالمية».. إلا أن الواقع يؤكد أن هذه المادة مجرد «حبر على ورق»، ولا علاقة لها بما يجرى في العملية التعليمية. إذن ليس هناك جديد يُذكر، ولن يكون هناك جديد في منظومة التعليم في مصر، والجديد الذي قد يحدث، وسوف يحدث فعلا، هو تحقيق مزيد من التدهور والتدنى، لأن الحقائق التاريخية تؤكد أن «اللى اتكسر مبيتصلحش»، فضلا عن غياب الرغبة الصادقة في الإصلاح، كما أسلفت.. ومن أجل ذلك.. عندما فكرنا في إعداد ملحق عن:«الموسم الدراسى الجديد»، لم نفضل أن نقول كلاما مكررا، لأن الحكومات المصرية لا تدرج التعليم على أولوياتها ولا تحب الحديث عنه من قريب أو بعيد.. وفضلنا أن نعود بالذاكرة إلى الوراء سنوات، لنعرف من خلال عدد من رجالات الفكر والثقافة والسياسة والفن والاعلام، كيف كانت المدرسة مصنعا للعقول النابهة والنابغة حتى لمن يتموا تعليمهم إلى نهايته..وكيف أصبحت وكرا للأمية والجهل والسطحية وكل المرادفات المشابهة.. ولك الله يا مصر.