أن تكون طفلًا لأم صحفية يعني أنك أينما وليت وجهك داخل البيت تجد صحيفة هنا أو ورقة هناك، كتابا مفتوحًا وعلامة تشير إلى آخر ورقة تمت قراءتها، أما أنك ابن سيدة ترأس تحرير جريدة فيعني ذلك أن العبء أكبر، قبل أن تكون تلك السيدة هي «روز اليوسف» مؤسس جريدة روز اليوسف، وإحدى الصحفيات اللاتي خضن معارك صحفية مع حزب الوفد قبل ثورة 23 يوليو، أضف إلى ذلك أنه نجل المؤلف محمد عبد القدوس. هكذا كانت طفولة «إحسان عبد القدوس» التي تعلم خلالها أن الكلمة أقوى سلاح يمكن لأي إنسان أن يمتلكه، كما آثر على عدم المقايضة على رأيه حتى لو كانت النتيجة هي الموت في سبيل القضية، ف«إحسان» الذي ولد في يناير 1919، وتعلم في مدرسة الخليل أغا قبل التحاقه بكلية الحقوق في جامعة القاهرة، ويتخرج محاميًا فاشلا - حسب وصفه لنفسه. أما طفولة «عبد القدوس» فتميزت بنقيضين، فهو تارة عند جده قاضي المحاكم الشرعية والعالم الأزهري الجليل، وتارة أخرى في ندوة ب«روز اليوسف»، تناقش حرية المرأة والمطالبة بالمساواة، وهي القصة التي قال عنها: «كان الانتقال بين المتناقضين يصيبني في البداية بما يشبه الدوار الذهني، حتى اعتدت عليه بالتدريج، واستطعت أن أعد نفسي لتقبله كأمر واقع في حياتي لا مفر منه». «أنا حرة، حتى لا تنطفئ الشمس، دمي ودموعي وابتساماتي»، كلها روايات ربما يتخيل قارئها في بداية الأمر، أن كاتبها إنسان لا يعرف سوى الحب والعيش داخل الغرف المغلقة، ومطالعة صوت زقزقة العصافير وسيمفونيات بيتهوفن، خصوصًا أن وجه كاتبها يشبه كثيرًا وجه الأطفال، ليفاجأ بعد ذلك أن هذا الكاتب كان أبرز المعارضين للنظام الملكي، وأحد الناشطين في الحركة السياسية المصرية ورئيس تحرير أكبر الجرائد «الأهرام»، التي تتطلب الكثير من الصفات لقيادتها، لعل أهما إدراك كل تفاصيل السياسة العالمية، وما يحدث داخل أروقة كل حكومة. «عبد القدوس» الذي تربى بين جده الأزهري ووالدته الصحفية، كان أول الرافضين للعصر الملكي، وبعد أن فشل في المحاماة التحق بالصحافة ليصبح أحد أعمدتها وأشهر من عملوا في بلاط صاحبة الجلالة، وهو ما جعله يؤيد ثورة يوليو في بدايتها، مؤكدًا أن إعلان الجمهورية هو خطوة على الطريق الصحيح. صاحب مدرسة الفراش والجنس للجنس، كما أطلق معارضو إحسان عليه، كان هو أول من فجر قضية الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين 48 على صفحات جريدة روز اليوسف، بعد حملة شنها لتفضح تعرض الجنود المصريين لخيانة في ميدان القتال، مكشرًا عن أنيابه الصحفية واستعداده لدفع أي تضحية مقابل الحقيقة، وكانت تلك الحملة بمثابة نعش في حكم الملك فاروق الذي سقط فيما بعد. أن تقرأ ل«إحسان» في روايته التي خلت من الأفكار السياسية، مكتفيًا بمشاكل المرأة شيئًا، وأن تطالعك مقالاته في الصحف، الذي تناول بها الوضع السياسي بعد ثورة يوليو، وهو الليبرالي الذي آمن بالثورة شيء آخر، الأمر الذي دفع الرئيس جمال عبد الناصر إلى إصدار قرار باعتقاله مرتين في السجن الحربي، قبل أن يتحول هذا الخريف إلى ربيع انتهى بأن منحه «ناصر» نفسه، وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى عن مجمل أعماله الأدبية. ول«عبد القدوس» موقف آخر مع «ناصر»، بعد أن أثارت روايته «البنات والصيف» غضب الزعيم، وكان من محبي قراءة الروايات، ورد عليه وقتها إحسان «إن ما كتبته يحدث فعلا ويحدث أكثر منه، وبوليس الآداب لن يستطيع أن يمنع وقوعه، إنها ليست حالات فردية إنه مجتمع، مجتمع منحل ولن يصلح هذا المجتمع إلا دعوة، إلا انبثاق فكرة تنبثق من سخط الناس كما انبثقت ثورة 23 يوليو، لهذا أكتب قصصي». ما لا يعلمه الكثيرون عن تلك الشخصية التي وقف وزير ثقافة في عهد ناصر يطالب بمحاكمته، هو نفسه الذي كان إحدى الشخصيات الملتزمة إن لم تكن المتزمتة في بعض الأحيان، فكان لا يسمح لامرأته بأن تخرج من البيت، وكان حينما يؤيد أحدا في العائلة تأديب ابنته كان يرسلها إلى عبد القدوس الذي مات عام 1990.