على طريق الأوتوستراد فى المنطقة بين طرة الأسمنت والمعصرة، بالقاهرة، توقفت سيارة الميكروباص بسبب اختناق مروري.. طول الفترة دفع أحد الركاب لكسر حالة الصمت التى خيمت على الجميع بجملة أشار فيها إلى أن تلك المنطقة تعج بكل صنوف الممنوعات بداية من المخدرات والسلاح حتى تصنيع الأسمدة الزراعية المغشوشة.. هكذا ألقى الرجل بكلماته لتكون بداية الخيط الذى دفع «فيتو» للتحقق من المعلومة والتأكد منها لينتهى الأمر بالكشف عن مافيا تصنيع الأسمدة المغشوشة فى مصر. تلك الأسمدة التى تصنع من مخلفات عملية تقطيع الرخام والحجر الجيرى وحامض الكبريتيك، المعروف باسم «مية النار»، فى ورش خاصة تنتشر فى مناطق وعرة وصحراوية على طريق الأوتوستراد، وتوزع فى غير محافظة مصرية، ولا يقتصر خطرها على إهدار التربة الزراعية وإتلافها بل يمتد إلى الإنسان والحيوان والمياه الجوفية.. التفاصيل الموثقة فى هذا التحقيق. طريق الأوتوستراد فضولى الصحفى دفعنى لسؤال الرجل عن مصدر معلومته فأشار إلى أن شقيقه عادل يعمل سائقاً بالمنطقة ولديه جميع المعلومات فطلبت منه تحديد موعد مع شقيقه بعد تقديم نفسى له فرحب.. و فى اليوم التالى كان لقائى ب«عادل» الذى تكبد المخاطرة مع كاتب السطور فى جولة داخل المنطقة التى تضم ورش تصنيع الموت وأشهرها مصنع «خ» إمبراطور الأسمدة المغشوشة والتى وصلناها عبر «مدقات» وطرق وعرة لمسافة تبعد 2 كيلو متر عن طريق الاوتوستراد وصولاً إلى «بطن الجبل» كما يطلق عليها العمال.. المكان يعج بالبلطجية والمسجلين خطر وقطاع الطرق .. وجوه لم تعهدها عينى من قبل.. وعند أكبر ورش تصنيع الأسمدة توقفنا لنشاهد عمليات التمويه.. ماكينات لطحن الحجر الأبيض وماكينات تقطيع الأحجار الكبيرة وتلال من الرمال وعبوات فارغة ومعدة للتعبئة تحمل أسماء وشعارات أشهر مصانع الأسمنت والجبس وفى نهاية المنطقة تقع الورش. هنا يسير العمل على قدم وساق فى طحن «السحالي» وهى المواد المتخلفة عن عمليات «جلخ» وتقطيع الرخام حيث يضاف لها الحجر الجيرى وماء النار المركز فقط داخل ماكينات خاصة ويتم تعبئتها فى «الشكائر» تمهيداً لوصول «المورد» الذى يصل ليلاً بعيداً عن الأعين بحوزته عبوات تحمل أسماء وشعارات كبريات الشركات المنتجة للأسمدة الزراعية لتعبئتها بالسماد المغشوش قبل طرحها فى الأسواق خاصة بمحافظات الشرقية والفيوم والدقهلية والقليوبية والبحيرة بنصف ثمن الأسمدة الأصلية وهو ما يجذب المزارعين لشرائها دون معرفة مصدرها الأصلي. الحصول على العينة بعد وصولنا ساعدنى «عادل» فى الحصول على «شيكارة» سماد عن طريق أحد أعوانه متعللاً أنه يحتاجها ليهادى بها أحد المعارف الذى يمتلك بيتاً بحديقة واسعة وتحقق المراد وقبل الإسراع بالغنيمة أخبرنى عادل أن هناك العديد من المصانع بالمنطقة وبقرية عرب أبو ساعد على طريق الأوتوستراد التابعة لمركز الصف بالجيزة تقوم بطحن الخلطة مقابل مبالغ خيالية لتجار الأسمدة وتم ضبط العديد من تلك الورش قبل الثورة فى منطقة «المحطة» و«دريم ستون». فى مركز البحوث فى صباح اليوم التالى توجهت إلى مركز البحوث الزراعية لتحليل العينة التى حصلت عليها وكان اللقاء داخل معهد بحوث الأراضى والمياه والبيئة بالدكتور سيد التهامي، أستاذ مساعد بقسم شئون البيئة، والذى اصطحبنى إلى المعمل المركزى للتحاليل الخاصة بالتربة والمياه والنبات والسماد وبعد دفع رسوم 240 جنيها لتحليل العينة أكد أن مركبات الفوسفات بالعينة موجودة بنسبة مخيفة، مضيفاً: تلك المواد تبقى آثارها فى التربة طويلاً ولها آثار سامة على كل من الإنسان والحيوان، وتساعد على نمو الطحالب والنباتات المائية الأخرى الأمر الذى يصل بالترع والمصارف المجاورة لتلك الأراضى التى تستخدم بها هذه الأسمدة المغشوشة إلى حالة التشبع الغذائى حيث تتحول بمرور الوقت إلى مستنقعات خالية من الأكسجين وبالتالى تخلو تماماً من الكائنات الحية المائية الأخري. تسمم الإنسان وبخصوص العينة أكد الدكتور التهامى أن العين المجردة لا تستطيع اكتشاف الفرق ولكن بعد عملية التحليل تستطيع الحكم من خلال «تحليل k,p,k» ومطابقة نتائج ونسب العينات على ال« lebal المدون على العبوة فإذا تطابقت النتائج مع النسب المدونة على العبوة كان المنتج سليما والعكس صحيح والخطورة فى انخفاض أو زيادة النسب عن المسموح بها للتربة والنبات والتى تؤدى إلى كوارث بيئية وصحية. ويشاركنا الحديث الدكتور محمد محسن الخولي، أستاذ مساعد قسم بحوث البيئة ومدير المعمل قائلاً: من أهم الأسمدة مركبات الفوسفات والنترات واليوريا وعند الافراط فى استخدامه فإن جزءا كبيرا منها يتبقى فى التربة الزراعية ويكون زائدا عن حاجة النبات وبالتالى يؤدى إلى تلوث التربة وبمرور الوقت تصل هذه الأسمدة إلى المياه الجوفية فى باطن الأرض الأمر الذى يؤدى إلى تلوث هذه المياه وأيضا عندما تسقط الأمطار فإنها تحمل معها ما يزيد فى التربة من هذه الأسمدة وتشارك كل من مياه الصرف الزراعية والمياه الجوفية فى نقل الأسمدة إلى المجارى المائية القريبة للأرض الزراعية مثل الأنهار والبحيرات والترع والمصارف الأمر الذى يضر بالكائنات الحية الدقيقة فالأسمدة مكمل غذائى للتربة والنبات، ويجب أن يكون فى حدود النسب المسموح بها فعملية الزيادة والنقصان تضر بالإنسان والنبات. والافراط فى استخدامها يؤدى إلى تراكمها فى التربة الزراعية حيث إن النباتات لا تستطيع أن تستهلك كل ما يضاف لها وهذه النسبة الزائدة تذهب مع مياه الصرف إلى باطن الأرض، بينما أيون النتريت هو الأيون السام ومركبات النترات يتحول جزء منها إلى أيون نتريت ما يؤدى إلى تسمم الإنسان. تهريب الأسمدة المغشوشة وداخل معامل التحليل تقابلت «فيتو» مع سيد محمود أحد المشرفين على الجمعيات الزراعية الذى أطلق سهامه فى كل صوب مؤكداً وصول ارتفاع سعر شيكارة اليوريا إلى 130 جنيها بدلاً من 75 جنيها والنترات 140 جنيها بدلا من 70 جنيها قائلاً: تضاعف سعر «السوبر» شكل عبئا على الفلاحين الذين يعانون الأمرين بارتفاع أسعار المبيدات والأسمدة وانتشار تجارة «المضروب» التى يكتشفها الفلاح بعد «وقوع الفاس فى الرأس». مفجراً مفاجأة كشف محمود ل«فيتو» عن وجود مافيا تسيطر على تهريب الأسمدة المغشوشة فى شتى أنحاء محافظة الجيزة بمناطق الصف والحوامدية وأبو النمرس والمنوات وطموه لقربها من ورش التصنيع بعرب أبو ساعد وطريق الأوتوستراد بحلوان، مضيفاً أن تجارة الأسمدة المغشوشة تتم ليل نهار دون رقابة وأن مكونات الأسمدة المضروبة عبارة عن «سحالي» وهى مخلفات «الرخام» والتى يتم طحنها مع الحجر الجيرى مضافاً لهما حمض الكبريتك «ماء النار» وقليل من الروائح النفاذة ويعبأ فى عبوات تحمل ماركات لشركات شهيرة. هنا الحوامدية وبحثاً عن الحقيقة الكاملة كانت وجهتنا التالية هى مدينة الحوامدية عبر «معدية المعصرة» وهى الوسيلة الوحيدة الأسرع لنقل الركاب والبضائع من الشرق للمدينة الواقعة غرب النيل بمحافظة الجيزة وفى الرحلة التى قطعتها «المعدية» فى 10 دقائق تعرفت على «رامي» والذى يعمل بأحد المتاجر الكبرى بالمدينة فاصطحبنى فى الرحلة وكان الوسيط فى اللقاءات التى تمت بينى وبين الأهالي. اللقاء الأول كان مع محمد سعد - مزارع- قال إن بنوك التنمية كانت تقوم بتوزيع الأسمدة طبقاً للحيازات الزراعية وكانت الأمور مستقرة إلى أن ظهرت أزمة ندرة الأسمدة لسيطرة معدومى الضمير عليها وبين التعاونيات التى لم تستطع الحفاظ على حق المزارعين فى التوزيع، وأضاف: هناك أصحاب مصالح يتاجرون فى الحصص ويقومون بتوزيعها بطرق غير مشروعة فأصبحت مدن الحوامدية وأبو النمرس والمنوات وطموه والبدرشين أسواقا خصبة للأسمدة المغشوشة والسوق السوداء للماركات «الأصلية» ومع نقص الأسمدة وقع العديد من المزارعين فى عمليات نصب وشراء أسمدة «مضروبة» وينكشف الأمر عند «رش» الأرض.. فالسماد المغشوش لا يذوب معظمه أما السليم «يدوب» ويستفيد به النبات وسعر المضروب كان مغرياً لكن الجميع «انضحك عليه» من حرامية الأسمدة! يحيى محمد - مزارع- يرى أن المحاصيل الزراعية تواجه أزمة كبيرة تهددها بالتلف بسبب نقص الأسمدة فى الجمعيات وبنوك التنمية وخاصة اليوريا التى تباع فى السوق السوداء بما يعادل 170 جنيها للشيكارة الواحدة، فضلاً عن المضروب «الرخيص نظراً لاختفاء الأسمدة من الجمعيات الزراعية مما دفع تجار السوق السوداء وبلطجية الأسمدة المضروبة لاستغلال حاجة المزارعين. إبراهيم أبو عطية - مزارع- أكد أن التجار يقومون بالاستيلاء على الأسمدة من خلال مديريات التعاون الزراعى والجمعيات الزراعية ويبيعونها بثلاثة أضعاف سعرها الرسمى مما تسبب فى رواج سوق الأسمدة المغشوشة التى تأتى من المحافظات المجاورة عبر البلطجية مشيراً إلى أن الحوامدية أصبحت «ميناء» للأسمدة المغشوشة ومنها تتم عملية التصدير لمحافظات الشرقية والقليوبية والدقهلية والفيوم عبر منافذ طموه والمنوات والبدرشين. قبل أن ينهى أبو عطية كلامه وصلت إحدى «عربات الكارو» تحمل العديد من شكائر الأسمدة لأحد المزارعين وحاولنا معرفة مصدر الحمولة أو مكان التفريغ لكن المحاولة باءت بالفشل... الجمعيات التعاونية محمد طلعت، المسئول عن إحدى الجمعيات الزراعية بحلوان، رفض اتهام الجمعيات بالتقصير موضحاً أن كميات الكيماوى التى تورد إليهم لا تكفى حاجة المزارعين التى يزيد فيها الطلب على المعروض مما يدفع الفلاح للجوء للسوق السوداء ومعدومى الضمير من أصحاب ورش الأسمدة المغشوشة، راميا بالكرة فى ملعب بعض أصحاب الأراضى التى يؤجرونها للغير ومع ذلك يحصلون على حصتهم من السماد ويبيعونه فى السوق السوداء! الرقابة على الأسمدة المهندسة نبيلة حسن بهيئة الرقابة على الأسمدة بوزارة الزراعة قالت إن أزمة الأسمدة تتكرر كل عام وتختلف من عام لآخر على الرغم من أن الإنتاج يعتبر ضعف الاستهلاك موضحة: نقص المعروض من الأسمدة الأزوتية كبير بخلاف الأسمدة الفوسفاتية التى بها وفرة كبيرة وليس لديها مشكلة فى عملية التسويق بالرغم من أن إنتاج الأسمدة الأزوتية يفوق الاستهلاك.. كما أن أسعار الأسمدة الكيماوية فى مصر تختلف من منطقة إلى أخرى ويصل الأمر إلى ذروته خلال فصل الصيف نتيجة زيادة الطلب على الأسمدة الأزوتية.