من أشد ماأصاب البشرية من بلاء, ذلك الحلف التاريخى بين الحكام والكهان ، ففى مصر القديمة برر الكهان استعلاء الفرعون وكبره وسطوته بأنه من نسل الآلهة ، ولذلك تفرض طاعته كطاعة المعبود ذاته ، فجعلوا الخروج عليه أو الدعوة لذلك تجديفاً فى الدين وكفراً بالإله ، فهو الوسيط بين الأرض والسماء ، ينزل ماء السماء ببركته ويفيض النيل بمشيئته وتنمو الزراعات برضاه ، وعليه كان هو من يضع حجر الأساس بيده لبناء المعابد داعماً لفكرة الشراكة والوحدة بين الكهانة والزعامة فى احتفال طقسى مهيب مازال حكام اليوم يتمثلون موقفه القديم فى إرساء حجر الأساس للمشروعات والأبنية فى احتفالات تشابه ولا تخرج بعيداً عن ذلك المضمون . حتى أن الفرعون قد تمثل برمز طقسي فى عقيدة مصر القديمة , وهو الصقر حورس الذى كان يمثل قوة وسطوة الملك الدنيوى فى أسطورة أوزوريس ، فنشاهد تمثال خفرع جالساً وذلك الصقر الطقسى يحيط رأسه بجناحيه ليسبغ عليه شرعية الحكم الدنيوى المستمد من طقوس وأساطير عقيدة الشمس القديمة ، ومن العجب أن نرى استمرار ذلك المفهوم بصورة مشابهة متمثلاً فى رمز النسر الذى تتخذه الحكومات فى ختم أوراقها ، كما تضعه فوق رءوس تابعيها من رجال الجيش والشرطة إجلالاً واحتراماً ممثلين سطوة الحكم وشرعيته ، وتجعل إهانة ذلك الشعار بأى صورة جناية لا تغتفر فى استمرار شكلى لذلك المفهوم الطقسى عبر قرون طالت . وكذلك كانت الأوثان والأصنام رموزاً للآلهة نابعة من مخيلة الكهنة وأصحاب المصالح، وكانت تنصب وفق النزعات والميول والأهواء والتطلعات ، فنراها عابسة أو ضاحكة ، جميلة أو قبيحة ، يقتات بها هؤلاء الكهنة متخذين من فزاعة غضبها وسيلة للسيطرة والإرهاب على الأتباع والمريدين ، ولم يكن هذا الصنم لينطق أو يسمع ويبصر ، إنما كان السادن والكاهن هو الذى ينطق باسمه بما يريد هو أن ينطق لتعبيد الجماهير, وتذليلها له ولحلفائه من الحكام والطغاة ، فعبادة الأصنام لم تكن فى حقيقتها إقامة أحجار وأخشاب ; بقدر ما تمثلت في فرض شعارات لها كل ما لتلك الأصنام من نفوذ ومقتضيات ، فكانت الوثنية والكهانة بذلك المفهوم وسيلة للوقوف بين الفطرة البشرية والحاجة فى الإحساس بالعزة والكرامة وبين الإنسان ذاته فى مجتمعه ، وكان ذلك كله يصب فى مصلحة الطغاة من الحكام وسارقى الشعوب ليكون للكهنة نصيب مفروض من تلك الثروة المنهوبة والشهرة الكاذبة . فإذا رفعت في أي أرض وفي أي وقت شعارات ينطق باسمها الحكام , يقررون فيها مايجافى مفاهيم العقل الواعى ومضامين الحق والحرية والكرامة البشرية لأفراد الأمة ويفتى الكهان حينها بطاعتهم مخافة الفتنة كما يدعون دائما . . . فهذه هي الأصنام في طبيعتها وحقيقتها ووظيفتها ! هذه الفتنة في نفس وعقل من يدعو لذلك ، في عقل من يتعامل مع نظام مستبد ظالم لا يحكم بين الناس بالحق والعدل ويستأثر لنفسه ولبطانته بالمال وثروة البلاد دون شعبه ، ثم يمنح بعدها بعض تلك الرموز التي تتحدث عن الفتنة فتاتا من الشهرة والمال تنكب عليه فى نهم إلي حد أنها لم تعد قادرة علي أن تجعل لها مسافة بين ثرائها الممنوح وبين النظام المانح نفسه . وويلٌ لشعبٍ إذا اتفق حكامُه وكهانُه عليه ، إذ يصبح مطيّةً لهم، مسلوبَ الإرادة قاصراً عن التعبير، خاضعاً للزجر والأوامر والنواهي بما يُشبع المطامعَ ويحققُ المآربَ لأهل الحكم ، وحَمَلَة المباخر، ولمن حولهم من الأعوان . لقد عبدنا الكثير من الأوثان والأصنام فى تاريخنا القريب والبعيد ، تدهورت أحوالنا وأصبحنا خارج سياق التاريخ ، بينما نحمل تراثاً ملهماً جرى التعتيم عليه ، وديناً قيماً تم أسره يأمرنا بأخذ أسباب العزة والكرامة ، ولا سبيل أمامنا إلا بضرب الكهانة وهدم الأوثان .....وإيقاف الطغاة