وسط الشوارع الخالية بالمدينة الحرة مرت "سلمى" تشق طريقها نحو موقف السيارات القادمة إلى القاهرة, وأمام عينيها يمر شريط من ذكريات قريبة عن شبان فى عمر الزهور اختطفهم الموت على يد مجموعة من البلطجية المأجورين والمتعصبين في مباراة تحولت من ركل الكرة بالأقدام إلى الإطاحة برءوس أينعت, لتبيت مدينة المقاومة والوطنية والتجارة إلى مدينة خون الجميع أهلها ووضعت تحت الحصار وكأنها "غزة"..دموع غزيرة انسابت على وجه "سلمى" وهى تتذكر شقيقتها التى راحت فى المذبحة وراح معها ابن لم يكتب له أن يرى الدنيا سوى بعيون غطتها جفونها.. سارت وفى الطريق توقفت أمام مجموعة من المحال بالشارع التجاري فرأتها على غير العادة مغلقة, وفى الجوار تجمع أصحابها على المقهى المطل على الميدان يتحسرون على أيام مضت وتجارة كسدت. "سلمى" نظرت للعم محمد عبدون, أحد التجار, فرمقت فى عينيه مرارة وحزنا, وقبل أن تنطق بكلمة قال لها: منذ أكثر من نصف قرن لم أغادر بورسعيد.. مدينتي حبيبتي.. منذ اندلاع ثورة يناير المجيدة ونحن نعيش فى ضيق, لكننا تحملنا لأن تلك الثورة خلصتنا من طاغية ونظام ديكتاتوري عاقب محافظة بأكملها بسبب محاولة اغتيال مزعومة ألصقت برجل مسكين ظن أنه من حقه شكوى حاله لرئيس بلاده.. راع ومسئول عن رعيته.. ثم جاء الحادث الأخير الذى راح ضحيته بورسعيدية وشبان مصريون من هنا وهناك.. وبدلا من الحصار الرسمي الذى فرضه مبارك علينا, أصبح الحصار أمر وأصعب لأنه شعبي وبات علينا الصوم والتقشف فريضة لا نؤجر عليها فليست هناك حركة بيع وشراء ولا حتى مواد غذائية. وعلى بعد خطوات توقفت «سلمى» أما متاجر الخضروات والفاكهة على محفوظ, فسألته عن سبب إغلاقه "الدكان" فانفجر شاكيا: يابنتي لم تعد سيارات نقل الخضار والفاكهة تأتى إلينا, الكل خائف.. فسائقو السيارات القادمة من المحافظات المجاورة والقاهرة يخشون دخول المدينة, وكذا أصحاب السيارات داخل بورسعيد الرعب يسيطر عليهم ويرفضون إرسال سياراتهم إلى خارج المحافظة خشية الاعتداء عليهم, فضلا عن البلطجية وقاطعي الطريق الذين زاد عددهم بشكل رهيب. هالة فاروق, موظفة بالتربية والتعليم, استوقفها حديث "سلمى" مع التجار وأصحاب المقاهي فشاركت هى الأخرى وقالت: حركة البيع والشراء توقفت تماما, بل الحياة غادرت بورسعيد, ما حدث كان بمثابة النكبة.. مثل غيرنا من المصريين انفطرت قلوبنا على شباب فى عمر الزهور راحوا ضحية للغدر بأياد تكره الخير للوطن, لكننا نزيد عن كل أهالى مصر بأننا محاصرون فى بلدنا وكأننا "يهود". تاركة الأحزان وراءها, غير أن الأحزان لم تتركها, مضت "سلمى" فى طريقها لموقف السيارات, فصادفها المهندس كامل أبو زهرة, رئيس حي الزهور, الذى بدا مصدوما مما يحدث وقال: بذلنا جهودا كثيرة ومعي المسئول عن موقف سيارات الأجرة لإقناع السائقين بتسيير رحلات غير منتظمة إلى دمياط, وهو ما تم لكن فى ظروف صعبة, لدرجة أن السائق البورسعيدي حين يعود للمدينة يصلى لله شكرا على سلامة العودة, وكأنه كان فى رحلة إلى بلاد الأعداء.. وفى حي الزهور نفسه قد تكون الحياة مستمرة لكن بإيقاع بطئ ومميت, حيث النقص واضح فى السلع والمواد الغذائية. هنا تتدخل نشوى مصطفى السكرتير العام المساعد بالمحافظة والمسئولة عن ملف الإسكان, فتتحدث عن حركة البناء التى توقفت تماما, وتقول: غياب المسئولين عن المحافظة عقب وقوع المذبحة أوقف عجلة العمل داخل شركات المقاولات, وشخصيا لا أستطيع اتخاذ قرار منفرد, فالأمر يتعلق باعتمادات مالية ضخمة. إلى هنا ينتهي الشارع التجاري, فتجد "سلمى" نفسها بالقرب من محال قطع غيار السيارات.. نفس المشهد السابق يتكرر, غير أن الأبواب مفتوحة بينما غاب "الزبون", وعلى كرسي من خشب الخيزران يجلس محمد سليم, صاحب أحد المحال الذى راح يتحدث إلى "سلمى" : الوضع لا يسر عدوا ولا حبيبا, فحركة البيع شلت تماما, والخطورة ليست فقط فى العمالة وإيجارات المحال والخدمات الأخرى ومصاريفها, بل فى النقص الحاد فى السلع.. حتى لبن الأطفال أصبح مثل المخدرات.. شحيح وأسعاره مرتفعة, وكذا الحال بالنسبة لباقي السلع. وفى الجوار يرتفع صوت آخر: يا بنتي بورسعيد تموت بالبطئ.. هي الآن محاصرة والمنطقة الحرة بلا زبائن ولا حل سوى البلطجة, بعض الشباب تحول للانصراف إلى المحظورات من أجل الضرورات!! فى طريقها قابلت "سلمى" صديقتها منى التى تزوجت قبل عامين وعلى كتفها رضيعها يبكى, فقالت لها بعد السلام والتحية: اليوم ذهبت إلى السوق لم أجد شيئا إلا قليلا.. وما وجدته كان مرتفع الثمن.. تصوري كيلو اللحم يتعدى السبعين جنيها.. الطماطم بدلا من جنيه أصبحت بخمسة, وكذلك الأرز و.. و.. حملت "سلمى" أحزانها وصارت حتى وصلت إلى موقف السيارات المتجهة إلى القاهرة علها تجد سيارة تقلها إلى الجامعة حيث تدرس, لكنها وجدت السيارات وقد اعتراها التراب, بينما السائقون يجلسون على المقاهي ينفثون همومهم مع دخان الشيشة, لم تجد حلا سوى "التاكسي" وما أكثر تلك السيارات المتوقفة فى عرض الطريق تبحث عن راكب, قد يساهم بأجرته التي يدفعها في تدبير جزء من القسط الشهري لم يكتمل منه سوى بضعة جنيهات قليلة.. بعد محاولات مضنية استطاعت "سلمى" إقناع السائق بتوصيلها إلى القاهرة, فانطلق بها شابة نضرة قبل أن تعود هى جثة اخترقت رصاصة الغدر جسدها الطاهر.. والفاعل معلوم!! وعلى دقات طبول الحصار, شيعت جنازتها طوابير من العاطلين والعمال الذين تم تسريحهم بسبب الكساد.. ذهبت "سلمى" وبقيت مدينتها الحرة محاصرة!!