لا أظن أن أحدا لا يعرف سيرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، بل الكثير يحفظها عن ظهر قلب، ولكنى أردت الحديث هنا عن مهارة من مهاراته (صلى الله عليه وسلم)، ألا وهى تربية أصحابه (رضى الله عنهم). فهذه التربية التى أخرجت لنا رجالا نقتدى ونفخر بهم بل ونحلم أن يعيد الله علينا منة وجود أمثالهم بيننا، فقد كان (صلى الله عليه وسلم) يربى أصحابه تربية عملية تقوم على المواقف لا على الدروس فقط. فكيف يحبون الترف وهم ينظرون إلى جسده وقد تركت أعواد الحصير انطباعاتها الضاغطة عليه بعد نومه عليها، وكيف يظلمون أو يسكتون على ظلم وهم يرونه يصعد منبره ويستقبلهم باكيا ويقول لهم {من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليتقدم منه، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالى فليأخذ منه}. وكيف يحبون الولاية ويحرصون عليها وهم يسمعونه وهو يرد عمه بلطف حين سأله أن يوليه عملا من الأعمال التى ظفر بها كثير من المسلمين العاديين، فيصرفه قائلا { إنا – والله يا عم – لا نولى هذا الأمر أحداً يسأله أو أحداً يحرص عليه}. وكيف يكنزون من المال ما يزيد على حاجتهم إذا كان المُربى (صلى الله عليه وسلم ) يضع لنفسه وأهل بيته مبدأً لا يحيدون عنه ألا وهو ( أن يكونوا أول من يجوع إذا جاع الناس وآخر من يشبع إذا شبع الناس). إنه المُربى (صلى الله عليه وسلم) الذى تراكمت الأموال بين يديه فلم يتغير ولم يأخذ منها إلا كما يأخذ أقل المسلمين شأنا وأكثرهم فقرا ثم مات ودرعه مرهونة!!! وهاهو المربى عندما وجد بعض القادمين عليه يهابونه فى اضطراب ووجل فقال لهم {هونوا عليكم، إن أمى كانت تأكل القديد بمكة}. فهل تظن من يرى هذا الموقف من صحابته (رضى الله عنهم) يمكن أن يتكبر أو يختال بمال أو بنسب؟؟ لقد أزال (صلى الله عليه وسلم) كل ذرة كبر فى نفوس أصحابه خاصة عندما يرونه يوم الفتح الأكبر – فتح مكة – وهو يكاد لا يُرى وجهه الشريفة (صلى الله عليه وسلم ) من شدة انحناء رأسه تواضعا لله تعالى. لقد رأوه إنسانا ينذر حياته لدعوة ليس فيها أى مغنم شخصى من ثراء أو منصب أو جاه أو نفوذ... حتى الخلود التاريخى لشخصه لم يكن فى حسابه لأنه لا يؤمن إلا بخلود عند الله تعالى. لقد أراهم الدروس رؤيا، وجعلهم يعيشون المواقف معه موقفا تلو الآخر حتى يُرَسخ الدروس فى العقول. فيا كل مُربى – مدرسا كنت أو أباً أو غير ذلك – لا تقل أكثر مما تفعل بل افعل واترك الكلام إلا قليلا، حتى إذا جاء وقت الحصاد حصدت الرجال الذين تربوا على المواقف فيكون لهم مواقف لا الذين تربوا على الكلام فتحصد كلاما بلا أفعال. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(الأحزاب 52 ).