ما يزال البعض ينظر للأمن القومى باعتباره «حماية جغرافية الوطن داخليا وخارجيا»، والحاكم الذي ينجح في حماية أمن بلاده هو الذي يحافظ على حدودها من العدو الخارجى وعلى نظامه السياسي. وقبل التورط في تحديد تعريف مبسط أو معقد لمفهوم الأمن القومي، هناك بعض الأسئلة يجب طرحها، أهمها: ما هو الحجم أو الصورة أو المكانة التي نريدها لدولتنا؟ هل نرغب في دولة ذات سيادة لا تعتدى ولا يُعتدى عليها؟ هل نريدها تلعب دورا إقليميا أو دورا قاريا أو عالميا؟ هل نريدها رائدة وقائدة أم دولة ظل تحتل الدرجة الثانية أو الثالثة؟ وما هي قدراتنا البشرية والجغرافية والاقتصادية؟ هل الاقتصاد يساعد اعتماد الدولة على ذاتها؟ هل الاقتصاد يوافق حجم الدولة المرتقب أو المأمول؟. مع انتشار وسائل الاتصال شعر المواطن أن الأمن لم يعد في ردع الغازى الخارجى والمعارض الداخلى، بل إن الأمن الحقيقى هو أن تعيش آمنا اليوم وغدا، لا تشعر بالحرمان أو العجز أو الخوف في بيتك وفى المدينة أو القرية التي تعيش فيها وفى وطنك، والأمان المقصود هنا هو توفير المسكن والعمل والطعام والتعلم والانتقال، والعلاج، والحماية، والعدالة الناجزة، وحرية التعبير، وحرية الاعتقاد، وحرية ممارسة الشعائر الدينية، والمساواة..، وهذا بالطبع لا يتوافر سوى مع اقتصاد قوى ومع جيش وشرطة أقوى وفى ظل حكم ديمقراطى ودولة مدنية، وأكبر دليل على ذلك أن حجم الدولة ومكانتها على خريطة العالم أصبحت تقاس بمدى قدرتها على توفير احتياجات المواطنين من التعليم والمسكن والمأكل والعلاج والحريات، وليس بقوة جيشها وشرطتها وأجهزتها الاستخباراتية فقط. إن القدرات البشرية والجغرافية والاقتصادية والتعليمية لأى بلد أصبحت من الركائز الأساسية التي يجب أن ننطلق منها لتحديد حجم الدولة، سواء في الوقت الراهن أو المستقبل، خاصة أن هناك فرقًا كبيرًا بين الدولة التي تستورد التكنولوجيا وتعمل على توطينها، وبين الدولة التي تنتج التكنولوجيا وتصدرها، والفرق واضح أيضا بين الدولة التي تنتج ثقافتها وبين الدولة التي تعيش على ما يجود به الغير، الأولى وضعت نفسها في خريطة العالم، والثانية غارقة في الظل والمعونة، الأولى تملى شروطها وتفرض سياساتها، والثانية ركنت في بيت الطاعة لكى تضمن قوت يومها. ويرى خبراء أن الأمن القومى هو شرط للحفاظ على بقاء الدولة من خلال استخدام القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية وممارسة الدبلوماسية ويكون التركيز على القوة العسكرية هو الأفضل للحفاظ على أمن الدولة القومى والتدابير المتخذة لضمان الأمن الوطنى ما يلي: - استخدام الدبلوماسية يلى الحلفاء وعزل التهديدات. - حشد القوة الاقتصادية لتسهيل التعاون. - الحفاظ على قوات مسلحة فعالة. - تنفيذ تدابير الدفاع المدنى والتأهب لحالات الطوارئ. - استخدام أجهزة الاستخبارات لكشف وتجنب هزيمة أو تهديدات والتجسس، وحماية المعلومات السرية. - استخدام خدمات مكافحة التجسس أو الشرطة السرية لحماية البلاد من التهديدات الداخلية. وفى بحث أعده الدكتور زكريا حسين، أستاذ الدراسات الإستراتيجية، والمدير الأسبق لأكاديمية ناصر العسكرية، أكد أنه على الرغم من الأهمية القصوى لمفهوم «الأمن» وشيوع استخدامه، فإنه مفهوم حديث في العلوم السياسية، وقد أدى ذلك إلى اتسامه بالغموض مما أثار عدة مشاكل، فلا يُعَدُّ اصطلاح «الأمن» هو أفضل المصطلحات للتعبير عن الأمن الوطنى للدولة المعاصرة من ناحية، كما لم يتبلور المفهوم لكى يصبح حقلًا علميًّا داخل علم السياسة –منفصلًا عن علوم الإستراتيجية- تطبق عليه قواعد تأسيس النظرية، بدءًا من وضع الفروض وتحديد مناهج البحث الملائمة، واختيار أدوات التحقق العلمي، وقواعد الإثبات والنفى وإمكانية الوصول إلى نظرية عامة، وبالتالى الوصول إلى قانون يحكم ظاهرة «الأمن الوطني». وتاريخيا.. يعود استخدام مصطلح «الأمن» إلى نهاية الحرب العالمية الثانية؛ حيث ظهر تيار من الأدبيات يبحث في كيفية تحقيق الأمن وتلافى الحرب، وكان من نتائجه بروز نظريات الردع والتوازن، ثم أنشئ مجلس الأمن القومى الأمريكى عام 1974، ومنذ ذلك التاريخ انتشر استخدام مفهوم «الأمن» بمستوياته المختلفة طبقًا لطبيعة الظروف المحلية والإقليمية والدولية. وعلى الرغم من حداثة الدراسات في موضوع «الأمن» فإن مفاهيم «الأمن» قد أصبحت محددة وواضحة في فكر وعقل القيادات السياسية والفكرية في الكثير من الدول.. وقد برزت كتابات متعددة في هذا المجال، وشاعت مفاهيم بعينها في إطاره لعل أبرزها: «الأمن القومى الأمريكي» و«الأمن الأوربي» و«الأمن الإسرائيلي» و«الأمن القومى السوفييتي» قبل تفككه. وفى مجال التوصل إلى مفهوم متفق عليه «للأمن»، فإنه يجدر بنا التعرف على ذلك المدلول في إطار المدارس الفكرية المعاصرة، «فالأمن» -من وجهة نظر دائرة المعارف البريطانية- يعني: «حماية الأمة من خطر القهر على يد قوة أجنبية»، ومن وجهة نظر هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى الأسبق يعنى «أي تصرفات يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ حقه في البقاء». ولعل من أبرز ما كتب عن «الأمن» هو ما أوضحه «روبرت مكنمارا» وزير الدفاع الأمريكى الأسبق وأحد مفكرى الإستراتيجية البارزين في كتابه «جوهر الأمن».. حيث قال: «إن الأمن يعنى التطور والتنمية، سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية في ظل حماية مضمونة..والأمن الحقيقى للدولة ينبع من معرفتها العميقة للمصادر التي تهدد مختلف قدراتها ومواجهتها؛ لإعطاء الفرصة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية في كافة المجالات سواء في الحاضر أو المستقبل». ولعل أدق مفهوم «للأمن» هو ما ورد في القرآن الكريم في قوله - سبحانه وتعالى -: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِى أَطْعَمَهُم مِنْ جُوعٍ وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ». ومن هنا نؤكد أن الأمن هو ضد الخوف، والخوف بالمفهوم الحديث يعنى التهديد الشامل، سواء منه الاقتصادى أو الاجتماعى أو السياسي، الداخلى منه والخارجي. وفى إطار هذه الحقيقة يكون المفهوم الشامل «للأمن» من وجهة نظر الخبير العسكري هو: «القدرة التي تتمكن بها الدولة من تأمين انطلاق مصادر قوتها الداخلية والخارجية، الاقتصادية والعسكرية، في شتَّى المجالات في مواجهة المصادر التي تتهدَّدُها في الداخل والخارج، في السلم وفى الحرب، مع استمرار الانطلاق المؤمَّن لتلك القوى في الحاضر والمستقبل تحقيقًا للأهداف المخططة». وفى ضوء المفهوم الشامل للأمن، فإنه يعنى تهيئة الظروف المناسبة والمناخ المناسب للانطلاق بالإستراتيجية المخططة للتنمية الشاملة، بهدف تأمين الدولة من الداخل والخارج، بما يدفع التهديدات باختلاف أبعادها، بالقدر الذي يكفل لشعبها حياة مستقرة توفر له أقصى طاقة للنهوض والتقدم. من هنا فإن شمولية الأمن تعنى أن له أبعادًا متعددة.. أولها: البُعْد السياسي.. ويتمثل في الحفاظ على الكيان السياسي للدولة. ثانيًا: البُعْد الاقتصادي.. الذي يرمى إلى توفير المناخ المناسب للوفاء باحتياجات الشعب وتوفير سبل التقدم والرفاهية له. ثالثًا: البُعد الاجتماعي.. الذي يرمى إلى توفير الأمن للمواطنين بالقدر الذي يزيد من تنمية الشعور بالانتماء والولاء. رابعًا: البُعْد المعنوى أو الأيديولوجي.. الذي يؤمِّن الفكر والمعتقدات ويحافظ على العادات والتقاليد والقيم. خامسًا: البُعْد البيئي.. الذي يوفِّر التأمين ضد أخطار البيئة خاصة التخلص من النفايات ومسببات التلوث حفاظًا على الأمن. ويجمع الخبراء على أنه يتم صياغة الأمن على ضوء أربع ركائز أساسية: أولًا: إدراك التهديدات سواء الخارجية منها أو الداخلية. ثانيًا: رسم إستراتيجية لتنمية قوى الدولة والحاجة إلى الانطلاق المؤمَّن لها. ثالثًا: توفير القدرة على مواجهة التهديدات الخارجية والداخلية ببناء القوة المسلحة وقوة الشرطة القادرة على التصدى والمواجهة لهذه التهديدات. رابعًا: إعداد سيناريوهات واتخاذ إجراءات لمواجهة التهديدات التي تتناسب معها.. وتتصاعد تدريجيًّا مع تصاعد التهديد سواء خارجيًّا أو داخليًّا. وللأمن أربعة مستويات هي: أولًا: أمن الفرد ضد أية أخطار تهدد حياته أو ممتلكاته أو أسرته. ثانيًا: أمن الوطن ضد أية أخطار خارجية أو داخلية للدولة وهو ما يُعبَّر عنه «بالأمن الوطني». ثالثًا: الأمن القُطرى أو الجماعي، ويعنى اتفاق عدة دول في إطار إقليم واحد على التخطيط لمواجهة التهديدات التي تواجهها داخليًّا وخارجيًّا، وهو ما يعبر عنه «بالأمن القومي». رابعًا: الأمن الدولي.. وهو الذي تتولاه المنظمات الدولية سواء منها الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولى ودورهما في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. وعبر الصفحات التالية.. نستعرض جانبا من أبرز التحديات المتصلة بالأمن القومى، والتي تواجه مصر حاليا، وسبل الخروج من الأزمة، خاصة في ظل ما تردد من أنباء عن إنشاء وزارة للأمن القومى يتولاها اللواء محمد العصار...