كان لى طوال حياتى صداقات عدة، أعتز بها وأقدرها، بعضها استمر وتعمق، وبعضها للأسف الشديد انقطع بلا سبب، سوى تغير الأحوال والظروف، وبعضها متواصل من حين لآخر. لكن لم يكن لى صديق قريب جدا، أو كما يقال فى العامية «أنتيم»، فحب القراءة والكتابة يدفع الإنسان إلى الوحدة لفترات زمنية طويلة، بالإضافة إلى أن الاهتمام بالثقافة الرفيعة والقضايا الفلسفية والمشكلات الفكرية أمور تبعد صاحبها عن الناس العاديين، لأن لهم اهتمامات أخرى. ومن ثم عندما ظهر نجيب محفوظ فى حياتى، وجدت أمامى -فجأة- أستاذا وصديقا لا مثيل له على الإطلاق، فأى من أصدقائى أو أصحابى أو معارفى له خبرة محفوظ الواسعة وثقافته العميقة؟ أى منهم يمكن أن أتناقش معه فى شؤون الحياة والأدب والفكر والثقافة، كما أفعل مع محفوظ؟ وأى منهم يملك أخلاق محفوظ وإنسانيته؟ مع ملاحظة أن فارق العمر بينى وبين محفوظ يقترب من نحو نصف القرن، لكن هذا الفارق الكبير لم يحل دون نمو علاقتنا بطريقة مدهشة، فعندما بدأت أجد الوقت الذى يسمح لى بالاقتراب منه أكثر، كان هو قد قرر أن يقلل من ساعات القراءة والكتابة بسبب تعب عينيه، ومن ثم شاء القدر أن نقضى معا ساعات طويلة، اقتطعناها معا من ساعات الكتابة والقراءة، مع الفارق طبعا بين عظمة إبداعه ومحاولاتى المتواصلة. إذ استبدلنا بثقافة الوحدة، ثقافة التواصل، حين تفضل كاتب كبير ومنح وقته الثمين وخبرته العظيمة إلى كاتب فى بداية الطريق. أعترف أن نجيب محفوظ كان بالنسبة إلىّ هو الإنسان الأقرب إلى قلبى، وعقلى، ونفسى، وروحى، فهو «توأم الروح»، أو «الصديق الأقرب»، الذى لم أصادق مثله طوال حياتى، فثمة أمور كثيرة جدا مشتركة بيننا، لعل أهمها عشق الأدب، وحب الفلسفة ودراساتها دراسة أكاديمية، والميل إلى تأمل حركة الحياة وتقلباتها، والسعى إلى فهم أنماط البشر وشخصياتهم، والاهتمام بمتابعة كل تفاصيل الأحداث السياسية، ومراقبة أحوال المجتمع وتطوره، بالإضافة إلى الرغبة العارمة فى المعرفة الشاملة بأشكالها كافة، والظمأ إلى الارتواء من كل ينابيع الثقافة بمعناها الواسع. إننا لم نكن نختلف فى بعض الأحيان حول بعض الأشياء أو الأفكار فى الحياة والأدب والفكر والسياسة، لكنه اختلاف بديع، إذ هو يحترم دائما وجهات النظر الأخرى، مهما كانت متطرفة، كما أنه يسمح لى بفهم وجهة نظره كاملة، وإدراك الأسباب الكامنة وراء رؤيته الثاقبة. ولأن خبرته أطول، وتجربته أعمق، وثقافته أوسع، وموهبته أعظم، ونظرته أبعد، ورؤيته أشمل، لذلك كله فهو -فى كل المواقف أو جلها- على صواب، وأنا المخطئ، فالحق معه، والضلال من صفات البشر، فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.