بعد نجاح الثورة مباشرة، طالب شباب الثوار بحكومة (تكنوقراطية)، وهو مصطلح يعنى أن تتكوّن الحكومة من علماء ومتخصصين فى المجالات المنوط بهم القيام بها، من تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية وغيرها، بأسلوب علمى، يتناسب مع تطور الزمن... ولقد نشأت الفكرة وولد المصطلح، مع مولد النهضة الصناعية، فى نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، وازدادت أهميته مع ازدياد أهمية العلم الذى صار الوسيلة الوحيدة لتطوّر الدول والشعوب. والمفترض فى الحكومة التكنوقراطية أن لا يكون أفرادها من المنتمين إلى أى أحزاب أو طوائف، حتى تكون قراراتهم علمية عملية بحتة. ومن الواضح أن شباب الثورة لن يحظوا بهذه الحكومة فى الوقت الحالى على الأقل، إذ إن الحكومة القادمة لن ينطبق عليها حتما الجزء الأخير من شروط الحكومة التكنوقراطية، اللهم إلا إذا تغلّب الفكر العملى والمستقبلى على الفكر المرتبط بالعقيدة أو الدين... ونتيجة المرحلة الأولى للانتخابات ليست نتيجة نهائية بعد، ولكننى سأظل متفائلا، لو تواصلت على النحو نفسه، إذ إن جماعة الإخوان المسلمين جماعة سياسية مستنيرة، على أساس دينى، ومعظم من فيها من العلماء والمثقفين، ويمكنهم تشكيل حكومة تكنوقراطية أيضا، ولو أن النظام السابق قد حرص طوال فترة حكمه على أن تختلط فى الأذهان صورة الإخوان بالجماعات المتطرفة، فإن المراقب الحر، يرى فارقا كبيرا بين الفئتين، ويرى (وهو الأهم) كيف تحكم جماعة الإخوان بلادا أخرى حولنا، وتسير فيها الحياة على نحو طبيعى، وليس بنمط أفغانى، أو فكر متعنّت. والأهم من وجهة نظرى، أن يأتى البرلمان القادم متوازنا إلى الحد الذى يصنع برلمانا حقيقيا، يضع المستقبل نصب عينيه، ويضع خطة متوازنة للتنمية، تعطى العلم قيمته الحقيقية، بحيث يصبح قادرا على أن نعد ما استطعنا من قوة، وترسم خطتى إصلاح منظومتى الصحة والتعليم، وتخرج المشروعات العظيمة من الأدراج، وتدفع بها عجلة الإنتاج، لينتعش الاقتصاد، ويتحقّق للمواطن البسيط ما كان يحلم به منذ ستة عقود... وليس المهم هنا من سيحكم؟ ومن سيضع الخطة؟ ولا من المهم من سيعمل على تنفيذها؟... المهم أن يتم تنفيذها... وبصدق وأمانة... فما أحلم به هو حكومة يكون الضعيف منا قويا عندها، حتى تأخذ الحق له، والقوى فينا ضعيفًا عندها، حتى تأخذ الحق منه... حكومة تساوى بين الناس فى الحقوق والواجبات، وتعطى كل ذى حق حقه، بغض النظر عن فكره، أو عقيدته، أو انتمائه... حكومة تضع القانون الواحد فوق الجميع... بهذا فقط، وأيا كانت النتائج، يمكننا أن نقول إن الثورة قد نجحت... أخيرا.