من مفارقات الثورة المصرية أن الشباب الذين يقودونها لا يعرفون أنهم قادة، ويضيعون الكثير من وقتهم وطاقتهم فى البحث عمن يتبناهم من القدامى. والمفارقة الأشد أنهم لا يجدون من يقبل تبنيهم! فى فبراير، جمع الثوار خلجاتهم ورحلوا بمجرد تنحى الرئيس مبارك، وسعدوا بتولى المجلس العسكرى مقاليد الأمور وقدموا له «مطالبهم». ولم يبد عليهم أنهم يجدون فى ذلك الأمر شيئا غريبا: ثوار يطيحون بقيادة البلد ثم -فى لحظة انتصارهم الأكبر- يعودون مرة أخرى رعايا يقدمون المطالب ويناشدون! فى البداية قبل المجلس العسكرى تبنى هؤلاء الشباب، لكن مفهوم الأبوة لديه لم يتوافق وشعور الثوار بالاستقلال، وسرعان ما توترت العلاقة واتسعت الهوة بين الجانبين. بحث الثوار عن شخصيات مستقلة كبيرة كى «تقودهم». لكن هذه العملية فشلت، لأنهم فى أول الأمر وآخره ثوار، لهم آراء ومواقف قوية ولا يقبلون الانقياد لأحد. لكنهم لم يفهموا أن البحث عن قيادة أمر لا طائل من ورائه، وواصلوا. وبلغ عبث هذا البحث أقصاه فى «الجمعة الحزينة» -يوم 25 نوفمبر- حين أعلنت عشرات الحركات والائتلافات من ميدان التحرير توكيلها عددا من الشخصيات السياسية الشهيرة كى «تأتى وتقود الثورة» نحو تشكيل حكومة إنقاذ وطنى. لكن أحدا منهم لم يأت، كل لحساباته الخاصة. وسواء كانت هذه الحسابات مخطئة أو مصيبة، فإن المصيبة الحقيقية هى أن الثوار ظلوا ينتظرون، كأطفال يتامى، أن يأتى الكبار ويأخذوا بيدهم. ولم يأت أحد. وبدأت معنويات الشباب فى التدهور، وبدأ الحشد فى الميدان فى التفرق (قبل أن تقضى نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات على ما تبقى فيهم من حماس). ليس الهدف هنا أن ألوم القدامى، فهم كبار ولهم طريقتهم فى سياسة الأمور (وإن كنا طبعا قد رأينا مدى كفاءة طريقتهم هذه فى العقود الثلاثة الأخيرة). هدفى الحقيقى هو أن أقول للشباب الذى أسهم فى صنع هذه الثورة إنكم أنتم القادة ولا تعلمون. فكفوا عن البحث خارجكم واطرحوا أنفسكم بقوة ولا تخافوا. أعلم أن كل الحركات والائتلافات والتجمعات التى شاركت فى الثورة تعانى من تباينات فى الرؤية وفى الأسلوب، ومن حساسيات وتنافس بين أعضائها، ومن انقسامات وعقم فى بعض الأحيان. لكن المطلوب ليس الاتفاق على قائد، فقد انتهى عصر القيادة بهذا المعنى. وليس المطلوب أن تندمج الحركات كلها فى حزب أو حركة واحدة، فهذا العصر قد انتهى أيضا. إنما المطلوب أن تطرحوا مجموعة كبيرة من بينكم، ممن تسهم فى الحشد وفى التنظيم، لا تأخذ قرارات دون الرجوع إلى قواعدها، ولا يشترط فيها أن تكون ممثلة بدقة متناهية للوزن النسبى لكل حركة أو ائتلاف، وإنما أن تمثل بشكل ما، بدرجة ما، مجموع الحركات والائتلافات. هذه المجموعة لن تشكل «مجلس قيادة الثورة» وإنما مجرد مجموعة للتنسيق بين الحركات والائتلافات ولمتابعة تنفيذ مطالبها. المهم أن من هذه المجموعة ومن حولها ستبدأ القيادات فى التبلور. هذه القيادات الجديدة، لا قدامى السياسيين والمشاهير، هى الأقدر على قيادة العمل السياسى لأبناء الثورة. فهى الأقرب لثقافتها ولعالمها ولفهم الواقع الجديد الذى تعيشه. فالحقيقة أن جموع الشعب التى تحركت وتتحرك منذ يناير تسبق قياداتها كلها، تلك التى فى السلطة وتلك التى تنتظر، وتفهم السياسة فهما يختلف عن فهم القيادات. والحقيقة أيضا أن قوى الثورة هى التى تخاطر وتقدم التضحيات، يوما بعد يوم، وهى -لا القيادات القديمة- المستعدة لتقديم المزيد. هذه القوى تستحق قيادات أفضل من القدامى، ولن تجد تلك القيادات الأفضل على شاشات التليفزيون بل فى وسطها. أعلم أن الأمر ليس سهلا، وإلا كان تم وحده. لكن الثورة ليست سهلة، والحفاظ عليها من الضياع ليس سهلا. لكن الأمر يستحق العناء يا ثوار مصر، فلا تبحثوا بعيدا: قيادتكم واقفة بينكم، كل ما عليكم هو أن تنظروا إلى أنفسكم كى تروها.