لم أمتنع عن الكتابة فى جريدة «التحرير»، ولم تستغنِ الجريدة عن خدماتى، ولم أتشاجر مع الأستاذ إبراهيم عيسى، ولم يحدث أى من الخيالات الخزعبلية التى أمطرنى بها بعض القراء الذين عبّروا، مشكورين، عن قلقهم على انقطاع عمودى اليومى، كل ما هنالك أننى أبيت فى الاعتصام المطالب برحيل العسكر، وقضيت الأسبوع الأول أحضر حربا ضروسا ارتفع فيها خيرة الشهداء أمام قوات الاحتلال الغاشم التى تستخدم السلاح الأمريكى لقتل أبناء الوطن، وقضينا الأسبوع الثانى فى حصر عدد الشهداء وزيارة الجثامين فى المشرحة وتشييع جنازاتهم، وإن كنت أعذر الناس لانغماسهم فى نظرية المؤامرة، فما يحدث حولهم يشيب له الولدان. امتلأ الأسبوعان بالأحداث الجسام، إلا أن العنوان الرئيسى الذى حلّ على روح الاعتصام هو «الخذلان». الخذلان من كل الأطراف التى توقعنا أن تساند الشباب الذى ظل يُنحر يوميا على مدى ستة أيام، بينما انقسمت القوى السياسية -اللى إن شاء الله بعد ما نرحّل العسكر حنرحّلهم- ما بين متأمل فى الجثة والمصاب ومتهم لهما بأنهما جزء من مؤامرة ضده لتأجيل الانتخابات، ومتأمل آخر فى ذات الجثة ونفس عين المصاب وهو يفكر فى كيفية استخراج أفضل المكاسب السياسية من دمائهما. لم يُهرع إلى نجدة المصابين والمقتولين إلا من يطلق عليهم «حزب الكنبة»: الموظفون، وعمال اليومية، من يعولون الأسر، ويسعون على رزق الأطفال، وطلبة المدارس والجامعات، هؤلاء المواطنون الذين عادة ما يسعون فى حياتهم ولا يخرجهم عن قضبانها إلا المقتلة، فعلوها فى يوم 28 يناير، وفى معركة الجمل، وإبان معركة محمد محمود. كان العسكر سيرحل، ارتعد وكان سيرحل، وسيذكر التاريخ أن القوى السياسية بجميع تياراتها حافظت على الحكم العسكرى واستبسلت فى الدفاع عنه ضد الإرادة الشعبية التى نزلت بعفوية تطالب برحيله. لم يكن أى من الساسة على قدر المسؤولية ولم تطاول قامة أى منهم قامة هذا الشعب الذى نزل يموت دفاعا عن المصاب والمكلوم. ودعيت على كل الناس أنا بقى.. ظللت هكذا أجلس فى الاعتصام على الأرض مثل ستوتة وهاتك يا دعا على كل من خذلونا أن يريهم الله ما رأيناه، وأن تحترق قلوبهم كما احترقت قلوبنا، وأن يسومهم الله سوء منقلب نذالتهم وخستهم وجبنهم وتخليهم عمن يستنجدون بهم، وليس فى إجابة النجدة من طالب المساعدة أى شهامة أو كرم، إنما الكرم والشهامة تكون قبل أن يطلب منك المساعدة، أما وقد انتظرت حتى طلب الممتحَن منك الغوث فليس أقل من أن تقوم بواجبك ولو على سبيل التوريطة، فإذا كنت بلغت من الخسة أنك حتى لا تتورط باستصراخ المستغيث فلا أجد فى المعجم اللغوى ما يصفك، ولم يتصف بالشهامة والكرم فى هذه البلاد سوى «حزب الكنبة» الذى أغاث الملهوف دون أن ينتظر حتى سماع صراخه. ولأن مصر أم العجائب، فقد استوقفنى فى هذا الروع حدث لا أعلم كيف سيُكتب فى التاريخ: مظاهرات «يسقط الاستقلال» المسماة بمظاهرات العباسية! إنتَ حمار يا حمار؟ ألا يعلم السادة المتظاهرون فى العباسية أن طبيعة الحكم العسكرى، الذى يطالبون باستمراره، تحظر التظاهر؟ إن كنت تحب الحكم العسكرى فليس أقل من أن لا تخرق قوانينه. هل يتظاهر الإنسان لدعم حكم يمنع التظاهر؟ أمال هم بيضربونا ليه؟ والنبى شكلك ما فاهم هم بيضربونا ليه أساسا. من وجهة نظرهم هم يرون أن البلاد تحت حكم عسكرى ومن ثم فمن حقهم ضرب المتظاهرين لأنهم يقومون بعمل مخالف لقوانين العسكرى، ولذلك فنحن نطالب برحيل العسكر.. فهمت؟ أنت أهطل، والذين كلفوك بالنزول هُطل زيك.. وعشان كده عايزين نمشيهم، لأننا استوينا هطل بقى. لكن عليك أن تعى أننا فى لحظة تاريخية، أى أن هطلك لن يتوقف عند لحظته، وإنما سيدوَّن فى كتب التاريخ، وتتوارثه الأجيال، وسيشيرون إلى ذكراك: الأهطل أهو. تماما كما ستشير الأجيال القادمة بالتقزز والقرف والاحتقار لذكرى القوى السياسية التى ليس لديها أى طموحات سوى أن يشغل نصفها مجلس الشعب منزوع الدسم، ويشغل النصف الآخر مجلس الوزراء منزوع الشرف، وإن لم تكن حكومة إنقاذ وطنى فلجنة استشارية.. أى حاجة تطلع من ذمة المجلس، وهنيّالك يا فاعل الخير والثواب، وسيذكر التاريخ أن مصر مرت بلحظة تاريخية حيث كان العوامّ عمالقة وكانت النخبة مجموعة من الأقزام، سوّد الله وجوههم وخيّب سعيهم، وبمناسبة إنى بادعى على كل الناس.. بالنسبة لأعضاء مظاهرات «يسقط الاستقلال»، ربنا يسعدكم ويوفقكم وتفرحوا بعيالكم وتشوفوا جتتهم كده وهى مرمية فى الزبالة.