ما يقرؤه الإنسان فى الصغر ويحبه يظل عالقا بخياله طوال العمر. وحتى بعد أن يكبر وينضج وتتغير اتجاهاته يظل ما أسعده وأنعشه وهو صغير يمثل قيمة وذكرى طيبة لا تفارقه. ولعل الأمر يشبه تجارب الحب الأولى التى يظل لها وهج فى النفس حتى لو كان العقل ينفى أهميتها! عند قيامى بالسفر للمرة الأولى وأنا طالب بالجامعة كانت فرنسا هى وجهتى. وقتها كانت تسيطر علىّ رغبة فى التجول بالأحياء والأماكن التى قرأت عنها فى رواية «قصة مدينتين» التى كتبها تشارلز ديكنز فى أوائل القرن التاسع عشر. كان حى سان أنطوان الفقير الذى اندلعت منه شرارة الثورة الفرنسية ماثلا فى مخيلتى بمبانيه وشخوصه وحانة ديفارج الشهيرة وباقى مفردات المكان التى صورها المؤلف أحسن تصوير. وكنت أشعر بالإثارة لدى تذكر مشهد ذلك النبيل وهو يمر بعربته التى تجرها الجياد عندما تدحرج أحد براميل النبيذ من العربة وسقط فى الشارع، ثم بقية المشهد الدرامى المكثف بعدما اندفع الناس فى جنون نحو النبيذ المتسرب من البرميل المكسور، ومنظرهم وهم منبطحون على الأرض يشربون ما يصلهم من النبيذ المختلط بالتراب! كنت بطبيعة الحال أعلم أن باريس فى أواخر سبعينيات القرن العشرين تختلف عنها أيام الثورة الفرنسية، لكن الأمل فى بقاء آثار ومعالم من الحى القديم تدل على الماضى هو ما كان يحدونى ويمد خيالى بالوقود! وغنى عن القول أننى حين ذهبت إلى ذلك الحى وتجولت فى شوارعه قد عدت خائب الرجاء حيث لم أشاهد أى شىء يمت إلى الصورة التى قرأت عنها بصلة. نفس الأمر حدث لى عند زيارتى لألمانيا منذ سنوات. كانت إقامتى فى برلين، لكنى سعيت إلى الذهاب إلى مدينة دريسدن التى منحتها الحرب العالمية الثانية شهرة فائقة. صحيح أن جميع المدن الألمانية قد تعرضت للقصف والخراب، لكن دريسدن كان لها خصوصية حيث إن الدمار الذى حاق بها نتيجة الغارة الشهيرة كان حدثا فريدا فى التاريخ.. دمارا يشبه فى تأثيره ذلك الناتج عن ضربة نووية، بسبب أن عدد الطائرات المهاجمة المدينة وكمية المتفجرات التى ألقيت عليها لم يسبق له مثيل، وهو الأمر الذى نتج عنه تسوية المدينة بالأرض كما ذكرت لنا كتب التاريخ. لكن للغرابة فإننى وجدت المدينة طبيعية تماما، ليس بها من شواهد الدمار إلا ما قصد الألمان تركه من أجل العبرة والتذكر، ووجدت بيوتا قديمة لم أفهم كيف أن الدمار لم يطلها، لكنى عرفت أن كود البناء الألمانى كان يجعل واجهات المبانى آخر ما يتعرض للدمار، أى أن البناية يمكن أن تنهار وتظل واجهتها سليمة، ومن ثم يعيدون بناءها مع الاحتفاظ بالواجهة. مرت سنوات قمت بعدها بزيارة المدينة التوأم لمدينة دريسدن وهى مدينة كوفنترى البريطانية، وقد تم التآخى بين المدينتين بعد الحرب بسبب أن كلا منهما قد أصابها نفس الدمار، فقصف دريسدن قد صاحبه قصف مماثل لكوفنترى حيث كانت المدينتان مقرا لأكبر مصانع السلاح والذخيرة بألمانيا وإنجلترا. فى كوفنترى وجدتهم قد أصلحوا المبانى كلها لكنهم تركوا الكاتدرائية الكبيرة بالمدينة وجزء منها متهدم كشاهد على وحشية الحرب وفظاعتها. وقد حدثنى الدليل السياحى فى كوفنترى أن الإنجليز من هول ما حدث للمدينة قد اشتقوا فعلا جديدا فى اللغة أصبحوا يستخدمونه بعد الحرب وهو فعل «To coventrate» بمعنى يدمر ويبيد. وأذكر أننى قلت للدليل إن الألمان يحق لهم أيضا أن يشتقوا فعلا مماثلا قد يكون «To dresdenize» لأن ما حدث لمدينتهم لا يقل عما حدث للمدينة الإنجليزية. وما زالت هناك أماكن كثيرة قرأت عنها، وأنتظر خيبة الأمل وإحباط الخيال لدى زيارتى لها فى المستقبل.