قال أحمد شوقى أمير الشعراء فى قصيدة «جبل التوباد» يصف ملاعب الصبا التى تفتحت فيها مسام الحب فى قلب قيس لمعشوقته ليلى: جبل التوباد حَيَاك الحيا... وسقى الله صبانا ورعى فيك ناغَيْنا الهوى فى مهده... ورضعناه فكنتَ المُرضِعا هذه الربوة كانت ملعبا... لشبابينا وكانت مرتعا ما لأحجارك صمًّا كلما... هاج بى الشوق أبت أن تسمعا قد يهون العمر إلا ساعة... وتهون الأرض إلا موضعا كلما مررت بهذه القصيدة أو سمعتها مغناة بصوت محمد عبد الوهاب توقفت عند مقطع «قد يهون العمر إلا ساعة» وأخذنى التفكير فى ماهية تلك الساعة التى تهون كل ساعات العمر وهى أبدا لا تهون.. هى وحدها العزيزة الغالية.. هل هى ساعة لقاء الحبيب؟ أظن أن قيسا كان يعنى ذلك. ومع إدراكى لغلاوة ساعة لقاء الأحبة فإننى عشت عمرى كله وأنا أستيقظ من النوم كل صباح على صوت جرس المنبه على الطاولة الملاصقة للسرير وهو يعوى فى أذنى بكل غباوة مذكرا إياى بأن أوان النوم اللذيذ قد انقضى وأن ساعة الاستيقاظ قد حانت. من مزايا هذا المنبه أنه يظل يرسل أجراسه لمدة نصف دقيقة متصلة ثم يخرس، وبعد عشر دقائق يعاود الصراخ لمدة نصف دقيقة أخرى ثم يخمد صوته ويظل يعمل هكذا على مدى ساعة كاملة يعاود فيها التنبيه كل عشر دقائق.. بعدها يكون قد وصل إلى محطته الأخيرة وقدَّم أقصى ما لديه من أجلى، ثم يدخل فى غيبوبة ويصمت حتى صباح اليوم التالى. عندما يرن جرس المنبه للمرة الأولى فإننى أتحرك فى الفراش متململا وأنا أسمعه يعلن أن الساعة الآن السابعة.. أقول لنفسى: حسن سأنام خمس دقائق أخرى أو قُل عشر دقائق، وعندما يرن مرة أخرى سأقوم على الفور! عجيب أمر ابن آدم.. أمامه الليل بطوله لينام لكنه يتعلق بعشر دقائق فى الصباح كأنها هى التى ستحييه. بعدها يدق الجرس معلنا انقضاء عشر دقائق وأن الساعة قد أصبحت السابعة وعشر دقائق.. ما هذا؟ لا بد أن الزمن يتواطأ مع المنبه.. إن خمس ثوان فقط هى التى انقضت منذ سمعت الجرس الأول. ما العمل؟ هل أستسلم وأقوم؟ نعم سأقوم ولكن لا بأس لو نعمت بدقائق أخرى أكون فيها قد فردت جسمى وأعددت نفسى للانتقال من حالة الرقود والاستغراق فى النوم إلى حالة اليقظة. ولكن سرعان ما تمر الدقائق العشر فى ثانيتين وينطلق المنبه غاضبا كأنه يؤنبنى على التكاسل ويعلن أن الساعة الآن السابعة وعشرون دقيقة. ماذا أفعل؟ إن الدقائق التى اقتنصتها لم تفلح فى طرد النعاس من أجفانى ولم تجهزنى لأقوم نشيطا مستبشرا. لكن ماذا سيحدث للكون لو مددت الوقت المستقطع لعشر دقائق إضافية تكون خلايا المخ فيها قد تنبهت وأرسلت إشارات إلى الجسد المتعب أن يكف عن التلكؤ ويبدأ فى التصرف على نحو محترم؟ العجيب أننى فى هذا الوقت أسمع صوت الشخير وكأنه صادر عن شخص آخر وأتعجب من هذا الكائن البخارى الذى يصدر هذا الصوت المزعج! ثم يشق المشهد صوت المنبه: الساعة الآن السابعة والنصف. فى هذه اللحظة عادة تبدأ الأسئلة الفلسفية فى الدوران مثل: ما جدوى العمل والكدح؟ كم عام وأنا على هذه الحال فماذا حققت؟ وإذا كنت قد جنيت مالا فلماذا لا أكف عن اللهاث وأستريح؟ أم ترى أنه الإحساس بالواجب نحو الوطن والآخرين؟ لكن أترانى حققت شيئا مما حلمت به للوطن وأهله؟ إنّ هذا الوطن يتعين عليه أن يترفق بى وأن يصبر علىّ وينتظرنى لعشر دقائق جديدة، وهذا أقل ما يدين به لرجل مثلى! ولكن يا إلهى! ما هذا الذى يحدث؟ لقد انعدمت البركة حتى فى الزمن ولم يعد فضفاضا كما كان أيام زمان.. ولكن لماذا ستظل بركة الزمن على حالها؟ ألم يتغير المناخ ويصبح بهذا الشكل المريع؟ لقد كنا فى ما مضى ننعم بالفصول الأربعة واضحة قاطعة، أما الآن فليس سوى صيف طويل خانق لعشرة أشهر ثم شتاء خجول مخنث فى ديسمبر ويناير فقط. الساعة الآن السابعة وأربعون دقيقة. أنظر إلى المنبه فى حقد فيعلو صوته كأنه يبادلنى كراهية بكراهية، ثم أقلب نفسى على السرير وأدفن وجهى فى الفراش فاردا ذراعىّ فى وضع الطائرة الجامبو مستعدا للتحليق والاندفاع نحو الحمّام ثم أنظر إلى النعل بجوار السرير وأحس أنه شامت فأستمهله مؤكدا أننى لن أتأخر عليه.. عشر دقائق فقط أيها الشبشب اللطيف وستجدنى أنتعلك مثل الباشا وأمضى بك إلى الحمّام. الساعة الآن السابعة وخمسون دقيقة. لا لا لا.. لا يمكن أن تكون الحياة بكل هذه القسوة.. سأقوم الآن لكن لغرض واحد فقط.. سأقدم استقالتى وسأعود لأنام ملء جفونى وسوف أثبت للجهلاء الذين يشكون من الفراغ والملل بعد التقاعد أن التقاعد هو أجمل نعمة أنعم الله بها على عباده الصالحين.. ولكن أكثر الناس لا يعلمون! قد يهون العمر إلا ساعة.. وتهون الأرض إلا موضعا. هذه هى الساعة التى تعد أغلى من العمر كله.. بين السابعة والثامنة كل صباح. أما ساعة الموْكُوس «قيس» فلا أقلل من أهميتها، لكنها لا تعدل الساعة التى حدثتكم عنها. وبالنسبة إلى الموضع الذى لا يهون من الأرض.. فلنؤجل الحديث عنه إلى مرة أخرى.