لقد ظهر جليّا أن المجلس العسكرى له أهداف ورؤى تختلف عن تلك التى يتبناها الشعب وقام بثورته العظيمة من أجلها، فالمجلس كان يسعى لوقف ملف التوريث لكى تظل السلطة فى قبضة الجيش، وربما كان يحتاج الأمر منه إلى انقلاب عسكرى لوقف هذا السيناريو، وقد تحقق هذا الهدف من خلال ثورة شعبية رأى المجلس أن وقوفه بجانبها أفضل له وللوطن، وهو لا يريد أكثر من ذلك بينما الشعب المصرى الذى قام بالثورة يريد استكمال خطوات الثورة لكى يصل إلى حكم ديمقراطى مدنى يحقق له ما طالب به فى أثناء الثورة: عيش، حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية، وهنا اختلفت توجهات الشعب عن توجهات المجلس العسكرى، وثار الشعب مرة أخرى من خلال مليونيات متكررة للمطالبة بتحقيق الأهداف، ولم تصل الرسالة إلى المجلس وبدا متباطئا، ولكنه عند نقطة معينة من الضغط الشعبى يعطى بعض الأشياء لامتصاص غضب الناس، لكنها لم تكن كافية. كما كانت هناك محاولات كثيرة لشق صفوف الثوار وتفريق جمعهم حتى لا يزعجوا السلطة القائمة بطلباتهم المتكررة، وتم اصطناع أزمات طائفية وصراعات أيديولوجية لتمزيق الصفوف وإضعاف المد الثورى، وهكذا وصل المجتمع المصرى بعد عشرة أشهر من ثورته العظيمة إلى حالة متردية على كل المستويات، وزاد من إحساس الناس بالقهر والأسى بقاء وزارة الداخلية على ممارساتها القديمة فى عصر مبارك، وزاد عليها قوة الشرطة العسكرية، وبلغ عدد المعتقلين بعد الثورة والمحولين إلى القضاء العسكرى نحو 12 ألفا أغلبهم من الثوار، بينما بقى أهالى الشهداء ومصابو الثورة يعانون الإهمال والازدراء من الدولة، وهم يدورون بلا جدوى بين دواوين الحكومة يبحثون عن حقوقهم، بينما يعالج حسنى مبارك فى مستشفيات 5 نجوم ويتمتع هو وأولاده وعصابته بمعاملة ممتازة، ويحاكمون أمام قضاة مدنيين. وانقلب عصام شرف على الثورة وأصبح يعمل ضد أهدافها، ولم يعد يتذكر أنه وصل إلى منصبه على أكتاف ثوار التحرير، وارتضى بدور السكرتارية التابعة إلى المجلس العسكرى، وصار يعمل ببرنامج لجنة السياسات حيث كان عضوا بها قبل الثورة، ولم يعرف عنه توجهات معارضة أو ثورية قبل الثورة، ولكن حظ الثورة العثر جاء به فى تلكم الظروف على رأس الوزارة، فكان أداؤه غاية فى الضعف والتردى، فلم يستطع تطهير وزارة الداخلية فلم يتحقق الأمن، وبالتبعية تدهورت السياحة وتدهور الاقتصاد وغاب عن الناس الإحساس بالأمن والطمأنينة، وزادت الصراعات الطائفية والاحتجاجات الفئوية وأعمال العنف والبلطجة. والمحصلة النهائية هى حالة من الإحباط الشديد لدى الناس وبعضهم كره الثورة والثوار، إذ اعتقد أن الثورة جاءت بالفوضى وتدهور الاقتصاد، وكأن هذا كان هدفا يسعى إليه من ينتمون إلى النظام القديم وهم كثر. وتكالب السياسيون ورؤساء الأحزاب والانتهازيون كل يحاول أن يحصل على غنائمه من الثورة، وظهرت قوى غير ثورية، بل كانت غير مؤيدة للثورة ومع هذا حاولت ركوب الثورة وتغيير مسارها وأهدافها، وظهر الأفاقون والكذابون على شاشات التليفزيون الرسمى والخاص يروجون لأفكار تعود بمصر إلى عهد مبارك، وتزايد نفوذ النظام القديم فى السلطة والإعلام وبدؤوا يعدون أنفسهم لالتهام مجلس الشعب ومجلس الشورى. وأُبعد الثوار عن الصورة أو حبسوا خلف القضبان بمحاكمات عسكرية، وكان هذا دليلا على كراهية النظام الثوار واعتبارهم مثيرى شغب وبلطجية. ولهذا عاد من تبقى من الثوار الأصليين بروحهم الثورية النقية والطاهرة، عادوا إلى ميادين مصر وشوارعها ليكنسوا كل هذه القمامات ويزيلوا كل تلك النفايات من جديد، وليعيدوا الثورة إلى مسارها الصحيح، وليجتثوا السرطان من جذوره ويكملوا استئصال خلاياه بالجراحة والعلاج الكيميائى والإشعاعى وبكل وسائل العلاج الممكنة، إذ اكتشفوا أنهم فى الثورة الأولى اجتثوا جزءا من السرطان وانصرفوا تاركين بقاياه التى تكاثرت على مدى الشهور العشرة الماضية، فأفرزت سرطانا يبدو أخطر من سابقه، سرطانا يريد أن يعيد إنتاج الاستبداد بأقسى صوره، وأن يمكّن لهذا الاستبداد من خلال نصوص دستورية تضع الشعب المصرى تحت الوصاية العسكرية. والثوار الأصليون لديهم قدر هائل من الصمود والإصرار، ولديهم رؤية سياسية صحيحة، وبوصلة منضبطة تدلهم على الاتجاه، ولديهم توجه إصلاحى جذرى ربما لا يفهمه بعض أصحاب النظر القصير أو التطلعات المنخفضة والرؤية العاجزة، وهم الآن فى الميدان يقودون قاطرة التغيير ويصححون المسار الذى انحرف ويقاومون قوى الغدر والخداع والرجعية، وهم «أى الثوار» يصرون هذه المرة أن لا ينقسموا تحت رايات سياسية أو دينية، وإنما يجمعهم شعار واحد هو حب مصر والتفانى من أجل رفعتها، ولذلك يطردون من رحابهم كل المستقطبين والكذابين والمنافقين والمترددين وأصحاب المصالح الشخصية أو الفئوية أو الطائفية، وتعود إلى الميدان روحه المصرية الأصيلة وروحانيته السامية كى يصمد فى وجه الجبروت والطغيان ويغير وجه الحياة فى مصر بشكل حقيقى.