قال تعالى: «ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب» (الحج 18). فذكر سبحانه فى هذه الآية سجود كل شىء، ولم يبعض إلا الناس. فمن لم يسجد لله يشذ عن مخلوقات الكون كله، بل ويخرج عن تناغم الوجود الكونى، فيحق عليه بالضرورة العذاب الأليم! ولذلك يقول الحق: «وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين» (البقرة 45). فمن لم يخشع فى سجوده، فما صلى. وهذا السجود الخاشع هو أشرف حالات الصلاة، فهو رمز الخضوع الكامل للحق -عز وجل-، والسجود يقتضى الديمومة، ومن ثم جاءت هذه القصة البديعة، فقد اتفق لسهل بن عبد الله التسترى، فى أول دخوله إلى هذا الطريق الروحى، أنه رأى قلبه قد سجد. وانتظر أن يرفع من سجوده، فلم يرفع! فبقى حائرا، فما زال يسأل مشايخ الطريق عن واقعته، فما وجد أحدا يعرف واقعته، فإنهم أهل صدق، لا ينطقون إلا عن ذوق محقق. فقيل له: إن فى عبدان شيخا معتبرا، لو رحلت إليه ربما وجدت عنده علم ما تسأل عنه. فرحل إلى عبدان من أجل واقعته. فلما دخل عليه سلم، وقال: يا أيها الشيخ أيسجد القلب؟ فقال له الشيخ: إلى الأبد، فوجد شفاءه، فلزم خدمته. ومدار هذه الطريقة الصوفية على هذه السجدة القلبية. والقلب الصادق لا يرفع رأسه من سجوده أبدا. لأن قبلته لا ترتفع، فسجود الجسم إلى التربة التى هى أصله، وسجود الروح إلى الروح الكلى الذى صدر عنه، وسجود السر لربه الذى به نال المرتبة. ولا تخلص السجدة لله إلا من قلب ساجد، فمن لم يسجد قلبه لم تصح له سجدة أصلا. فلا بد من الخضوع الكامل من خلال هذه السجدة القلبية، التى تخلص العبد من كل آثار الربوبية الزائفة، فلا تبقى إلا حقيقته، أى العبودية الخالصة. فيسجد سجدة القرب، والمناجاة، والحضور مع الحق، فيذوق قوله تعالى: «واسجد واقترب». (العلق 19). وسجود كل قلب على حد علمه، إذ من عرف نفسه لم يرفع رأسه، ومن عرف ربه رفع رأسه فإنه مخلوق على صورة ربه! فجوهر الإنسان الحقيقى هو العبودية الكاملة لله، وفى الوقت نفسه، هذا الإنسان ذاته هو خليفة الله فى أرضه. ومن رأى روح الصلاة، بتمام الحضور مع الله ومناجاته، كانت جميع أفعاله صلاة! فهم أهل الحضور مع الله على الدوام، والمشار إليهم بقوله تعالى: «والذين هم على صلاتهم يحافظون» (المعارج 34). فالإنسان محل للتغيرات، واختلاف الأحوال عليه. فتختلف صلاته لاختلاف أحواله. فللخوف صلاة، وللشكر صلاة، وللمرض صلاة، وللاستخارة صلاة، وهكذا فى كل حال مناجاة مستمرة من حال إلى حال، ومن ثم حضور دائم مع الحق سبحانه