من أول زيارة إلى لندن فى بداية الستينيات اكتشفت مجلة/دليلآ أسبوعيآ، لمتابعة أحدث العروض بالسينمات والمسارح والملاهى الليلية وبقية الأنشطة الفنية. فأستطيع بسهولة أن أتابع ما يوجد من أفلام إلى جانب الأفلام التى فاتتنى وتعرض بسينمات عرضا ثانيا بأنحاء لندن، أو الأفلام الفنية المحدود توزيعها، خصوصا أفلام روسيا وأوروبا الشرقية وآسيا، إلى جانب كلاسيكيات السينما، كل هذا متاح أمامك لتختار وتحتار وتتوه فى غابة من الأفلام، هى بمثابة جنة لأمثالى، فاكهة لا تشبع منها، وتحوّل حياتى من المهندس المعمارى الذى تغربت من أجله، إلى عاشق وصايع سينما لا يدرى ما يخفيه قدره. فقد بدأ المشوار بلحظة عبثية، عقب تبادل تحية الصباح، أن أخبرنى جارى السيريالانكى أنه يدرس سينما، فتوترت أحلامى وتحولت فكرة دراسة البناء المعمارى إلى شغف لمعرفة ما هو البناء الدرامى، ولتأخذنى قدماى إلى مدرسة السينما الوحيدة حينذاك فى لندن، فأجدها تقع بمبنى متآكل بإحدى أسواق الخضار والفاكهة، ودون أدنى تردد التحقت بها فورا، راميا بعرض الحائط أى طموحات متبقية سوى ممارسة الفن السينمائى بأى شكل من أشكاله. ولكننى أيقنت فى ما بعد أن مدرستى الحقيقية هى وجودى فى لندن الستينيات، فى قلب ثورة فنون السينما والموسيقى والفن التشكيلى والمسرح والرواية والأزياء، فقد كان هناك وهج إبداعى بكل المجالات والأصناف، تشعر به فى الشارع وعبر الإعلام. فاكتشفت جودار وتروفو وأنطونيونى وفيلينى وفيسكونتى وبرجمان وكوروساوا وساتيات راى، وقائمة طويلة لمخرجين وكتّاب لا حصر لهم من جميع أنحاء العالم، جعلوا من لندن نقطة لقاء وانطلاق لإبداعاتهم، فارتجت السينما السائدة بتسونامى، ينعش العقول ويغازل الخيال. ولذا لم أندهش كثيرا أن أجد المخرج الفرنسى جان رنوار وهو فى السبعين من عمره يقف أمامنا بإحدى دور العرض، ليقدم أحدث أفلامه أو أكاد أن أصطدم بهيتشكوك على سلالم إحدى شركات التوزيع، أو أفاجأ بأنطونيونى بجوارى أمام جناح كتب السينما بإحدى المكتبات، ولم يكن غريبا بالمرة أن أشاهد أليك جينز أو بيتر أو تول أو ريتشارد هاريس أو لورنس أو ليفييه وألبرت فينى على خشبة المسرح، أو أن أحضر مسرحية من إخراج إنجمار برجمان، وأخرى إخراج أورسون ويلز. فتلك كانت لندن.. ملتقى للمبدعين ونافذة للفنون، تستقطب الجدير منها، وتنمى الجديد فيها، محدثة زوبعة من التغيير والغربلة، تحولها إلى كرنفال صاخب يسحر العقول ويهفهف الأرواح.