لا أحد من الممكن أن يضع خطا فاصلا بين الدين والدنيا، وليس معنى أننا ننشد قيام دولة مدنية أن تخاصم هذه الدولة الأديان.. فصل الدين عن الدولة هو القانون الوضعى الذى ندافع عنه، إلا أن حياة الناس يظل فيها مزج -شئنا أم أبينا- بين تعاليم الأديان من ناحية، وسلوك الناس من ناحية أخرى.. حتى من لا يحرص على أداء فرائضه مسلما أو مسيحيا لا يعنى ذلك أنه يخاصم الدين، ولهذا أرى أننا نتوق إلى رجل دين متفتح مثل الإمام محمد عبده، الذى لولا فهمه لصحيح الدين لما كانت لدينا كلية فنون جميلة ولا سينما ولا مسرح ولا غناء ولا موسيقى.. الإمام محمد عبده فى عام 1903 شرع النحت وصناعة التماثيل.. مفتى الديار المصرية الشيخ على جمعة الذى يحلو للكثيرين أن يصفوه بالمستنير بعد أكثر من مئة عام يعلن أن صناعة التماثيل مخالفة شرعية.. لو عدت إلى تحليل، لا أقصد الحلال والحرام، ولكن التحليل الفنى للإمام محمد عبده للنحت، ستقرأ أنه يعتبر النحت شعرا مرئيا، وعلى الجانب الآخر يعتبر أن الشعر نحتا مسموعا.. هل رأيتم توصيفا مكثفا ورائعا أكثر من هذا، وهكذا أباح الرجل هذا الفن، وكان القدر رحيما بمصر أن منحنا هذا الشيخ لأنه واكب فى تلك السنوات بدايات فن السينما فى العالم وبدايات العروض السينمائية فى مصر ولو لم يكن هناك تشريع دينى فى ظل مجتمع ينظر بريبة إلى كل ما هو جديد، لكان من الممكن أن نظل إلى الآن مثل دول بجوارنا نسأل بعد أكثر من مئة عام: هل السينما حلال أم حرام؟! عندما اقتحم أحد السلفيين حفلا لهشام عباس، متعللا أن الغناء حرام، وفى محاولة له لكى يثنى المطرب الذى قدم بصوته الرائع أسماء الله الحسنى، عندما اقتحم هذا السلفى الحفل مهما كانت بعد ذلك التبريرات حتى من المطرب نفسه الذى حاول التقليل من الحدث، فإن هذا الفكر المتزمت لا تزال له قوته وسطوته فى الشارع.. مع الأسف المؤسسة الدينية الرسمية ليس لديها هذا الانفتاح الذى يبيح لها أن تواجه هؤلاء المتزمتين الذين يحرمون ما أحله الله.. لقد دخل الإمام محمد عبده فى سجال طويل مع تلك العقليات، وكانت لديه حججه المستمدة من الشريعة الإسلامية عندما قال لهم لو أن هذه التماثيل تصنع لكى تعبد فهى محرمة ولكن عندما ننظر إليها من زاوية جمالية فما الحرام؟! التزمت ليس فقط توجها إسلاميا، أحيانا أجد فى بعض عظات قداسة البابا شنودة شيئا من التزمت فى ما يتعلق بالفن.. سبق وأن صرح بأنه لا يبيح الغناء رغم أن البابا كتب الشعر فى شبابه كما سبق قبل نحو عامين أن أشار إلى تحريم النحت.. الغريب أن بعض أساتذة الفنون الجميلة قرأنا لهم تصريحات مماثلة، مما أدى إلى تضاؤل التحاق الطلبة بهذا القسم، وتم أيضا تحريم الاستعانة «بالموديل» فى الرسم!! أن يحكم تيار إسلامى أو له توجه إسلامى، لا أتصوره مأزقا سوف يعانى منه المجتمع لو كنا بصدد مجتمع بناؤه الفكرى سليم فلا مجال للخوف.. حزب النهضة فى تونس لن يكبل الفن لأن المجتمع التونسى لديه قناعاته الفكرية التى سوف يدافع عنها ولا يمكن لحزب أو فكر أن يغلق النوافذ ويجب حتى نتفهم الدين أن نعود إلى الظرف الزمنى الذى من أجله كان هناك ميل مثلا لتحريم نوع من الفن.. المعروف أن الفن الإسلامى ابتعد عن التشخيص لأسباب متعلقة بالظرف التاريخى للرسالة المحمدية، حيث إنها جاءت لتقضى على عبادة الأصنام، فكان رد الفعل المبدئى هو أن التجسيد صار غير مستحب.. أما الديانة المسيحية فإنك دائما تجد الصور والتماثيل فى كل الكنائس نرى العذراء والسيد المسيح عليهما السلام، وهناك صور للقديسين، فكيف يتم تحريم النحت وصنع التماثيل فى المسيحية.. سألت القس البروتستانتى د.إكرام لمعى أستاذ علم مقارنة الأديان، عن حقيقة ذلك، فأجابنى لدينا تحف فنية فى الكنائس لمايكل أنجلو الذى رسم آدم وحواء فى الجنة ولا يسترهما سوى ورقة التوت.. إننا نتوق إلى رجال دين منفتحين يصالحون الناس على الدنيا!