.. أما المقصلة الرهيبة التى كادت فى إحدى مراحل المسار الطويل والمتعرج للثورة الفرنسية أن تكون عنوانها الوحيد وملمحها الأقوى، فحكايتها رغم البشاعة والدموية، بدأت بفكرة لم تخل من نزق طريف ربما يلامس حدود النكتة، لكنها انتهت بمفارقة مروعة فيها من العظات والعبر التاريخية ما يكفى لكى يتعلم هؤلاء المأخوذون والمندفعون بالشطط والغرور نحو الهاوية، أن جنون العنف والإرهاب والتخوين والتكفير إذا ما انطلق وانفتحت أبواب جحيمه فلن يستثنى أحدا، ولن ينجو من ناره حتى الذين أشعلوه وأطلقوه على خلق الله. وأستهل الحكاية من نهايتها، أى من مفارقة أن آلة الذبح والقتل الجهنمية هذه التى ارتبطت بثورة عظيمة رفعت شعار الحرية والإخاء والمساواة، حصدت فى أقل من خمس سنوات أرواح نحو 35 ألف إنسان، يتقدم صفوفهم جميعا أبرز وأهم قادة الثورة الذين حفرت أسماؤهم، ليس فقط فى لحم تاريخ فرنسا وحدها بل تاريخ الإنسانية والعالم بأسره من أمثال دانتون ومارا وسان جوست وهيبير وديمولان وكوندورسيه وأندريه شينيه ومدام رولان وبابيف، وأيضا قضى على المقصلة ماكسميليان روبسبير ذلك القاضى السابق والثائر الخطير الذى رفع شعار «سلامة الشعب أهم من شكليات العدالة»، فلما انعقدت له القيادة فى ذروة مرحلة الإرهاب الثورى طبق هذا الشعار بحذافيره، ووسع دائرة المشبوهين سياسيا فذبح الآلاف بالشبهة حتى قُتل هو نفسه وبالطريقة عينها! وأعود إلى بداية الحكاية حيث تتبدى الطرفة واضحة فى ذلك الاقتراح المتحمس الذى قدمه النائب والطبيب الثورى البارز جوزيف جيلوتان إلى الجمعية الوطنية التأسيسية، وخلاصته أننا ما دمنا قمنا بثورة شعارها الرئيسى المساواة بين المواطنين أجمعين، فلا بد من تعميم طريقة الإعدام بقطع الرأس على كل المحكومين بهذه العقوبة، ومن ثم يتعين فورا إنهاء التمييز الموروث من العهد البائد فى وسيلة تنفيذ حكم الموت بين المدانين المنتمين لطبقة النبلاء والمجرمين العاديين، إذ بينما المجرم النبيل يتمتع وحده بميزة الإعدام ذبحا فإن زميله المجرم المنحدر من طبقات الشعب يعدم شنقا! وشفع الدكتور جيلوتان اقتراحه الذى وافق البرلمان عليه (إعمالا لمبادئ الثورة) بتصميم مبتكر لآلة قتل جديدة أبدعها هو بنفسه وتتميز بأنها ذات حد حام قاطع يحز الرؤوس بسرعة ودقة وبألم أقل (منتهى الرقة والإنسانية) تحل محل البلطة التقليدية المتخلفة! ولم يضيع البرلمان وقتا كثيرا، وإنما أحال بسرعة اختراع معالى النائب الدكتور الثورى إلى طبيب مرموق آخر هو الدكتور أنطوان لويس سكرتير الأكاديمية الملكية للجراحة، حتى يبحث الموضوع من الناحية الطبية والأكاديمية، وبالفعل قام هذا الأخير بكتابة تقرير زكّى فيه الاختراع بحماس، وبناء على هذا التقرير صدر مرسوم بتعميم استخدام مقصلة الدكتور جيلوتان المبتكرة، لكن الناس أطلقوا عليها فى البداية اسم «لويزون» أى «لويزة الصغيرة» نسبة إلى الدكتور لويس صاحب تقرير إجازتها، غير أن منشورا رسميا صدر بعد شهور أعاد الفضل والحق لصاحبه الأصلى، وقرر تسمية آلة القتل الجديدة «جيلوتين» وهى الصيغة المؤنثة من اسم مبدعها على أساس أنه والدها وهى فى مقام ابنته الصغيرة! هذا المنشور أثار حفيظة وغضب جوزيف جوليتان، لأنه لم يكن يريد أن يتم تخليد اسمه بهذه الطريقة، أى مقترنا بآلة قتل شنيعة أفلتت رأسه هو نفسه من السقوط تحتها بمعجزة، عندما كان واحدا من المشبوهين سياسيا الذين اعتقلهم روبسبير وأمر بقتلهم على «الجيلوتين».. بيد أن حكما بالإعدام أدرك هذا الأخير قبل أن يقضى زميله ورفيقه جوليتان على المقصلة التى أبدعها بيوم واحد فقط! كل عام وأنتم بخير.