ارتبط الغلو والتطرف في حكمة التاريخ بالمآسي البشرية التي تركت بصماتها علي صفحات الزمن, تأبي الزوال, عصية علي النسيان, وإن كان لابد من تجرع الحزن والألم علي الضحايا في الماضي, فالأجدر بنا إعمال العقل حتي لا يعيد التاريخ نفسه بنفس الشكل أو بآخر وتسيل دماء الأبرياء مرة أخري, علي مذبح الغلو والتطرف, سواء كان تهويلا أو تهوينا, فكلاهما مضر, فوضع الندي موضع السيف. بالعلا مضر. كوضع الندي موضع السيف, والتهويل أو التهوين علي خطورتهما كأفكار تشذ عن الاعتدال, ليست هي القضية أو موضع الخطر, بل قد تستدعي الضرورة الاستعانة بأي منها لتسيير الحياة, ولكن الخطورة تكمن في قصور أصحاب أي هذه الأفكار واحتكارها للحقيقة, وحرمان الآخرين من حرية الفكر, ووضعهم في خانة الأعداء وبالتالي وجب مقاتلتهم, وحل سفك دمائهم علي مذبح الحقيقة المطلقة التي ماهي إلا جريمة مطلقة! ويأخذ التطرف والمغالاة مداهما في المناخ الثوري حيث التهييج والإثارة والمزايدات بين مختلف الأطراف, مما يرهن العقل والنفس, فتغيب الموضوعية والعقلانية, مما يشكل أكبر الخطر علي أهداف الثورة النبيلة, وتعيش المجتمعات العربية الآن مناخا ثوريا له ما يبرره, ولكن عليه أيضا الاستفادة من حكمة التاريخ فلا نعيد أخطاءه وبالتالي مآسيه! الثورات العربية مختلفة في أسبابها حسب طبيعة المجتمع الذي ظهرت فيه, ولكن ما يجمع بينها جميعا إنها ثورات علي الاستبداد السياسي وما يقوم عليه من فساد اقتصادي واجتماعي, فلاشك أن كل فرد منا مع ثورة المعلومات والاتصالات, يجد أن هناك من هم علي درجة من التقدم وكانوا حتي وقت قريب وراءنا بخطوات واسعة, وأتاحت لهم نظم الحكم الرشيدة التقدم, فسبقونا بخطوات كافية لتكشف حجم التخلف الذي نحن فيه! فهذه الثورات من اكتمل منها ومن لم يكتمل بلاشك لن تعيد هذه المجتمعات إلي الوراء, إلي عصر الاستبداد, ولابد لها أن ترسي قواعد الإصلاح نحو التقدم, وهي حكمة ثابتة في التاريخ, فعندما تغلق مسارات الإصلاح تفتحها الثورات, والتي تبقي خلاقة رغم كلفتها الانسانية الفادحة, وعلينا الآن الاستفادة من حكمة التاريخ بتقليل هذه الكلفة, فليس من الضروري تجرع كل مصائب التطرف والمغالاة المصاحب للثورات القديمة. أما الضروري والواجب فهو تجنب البغي السياسي الذي يعقب الثورات في حرب الزعامات الأنانية, وسلاحها الوحيد المزايدات بالتطرف والمغالاة تحت شعار حماية الثورة! كانت الثورة الفرنسية الزلزال الذي هز العصور القديمة من جذورها كما يري( هيجل) ففتحت مسار التنوير والتقدم أمام العالم, ولكن حتي تصل لهذا الهدف النبيل كان عليها أن تدفع ثمنا غاليا من التطرف والمغالاة حتي تخلصت من هذا الفكر العقيم بالقضاء علي أصحابه! فخطورة التطرف والمغالاة مرتبطة بنوعية معتنقيه, فيستطيع أي فرد أن يكون متطرفا في أمر ما يري إنه الأفضل, وقد يكون ذلك مفيدا للثراء الإنساني لتنوع الأفكار واستدعائها عند الحاجة إليها لمواجهة ظرف اجتماعي معين, ولكن الخطورة عندما يتحول صاحب هذا الفكر إلي زعيم يفرض ما يراه بالقوة والإرهاب, كما فعل الرجل الذي لا يمكن رشوته( ماكسميليان روبسبير) أحد أهم الشخصيات الكبري في الثورة الفرنسية الذي لا تنقصه الخصال الشخصية النبيلة, ودفاعه المستميت عن الفضيلة ولكن تحولت الثورة علي يديه إلي حكم الإرهاب, فلم يشبع من تقتيل أعداء الثورة كما يتصور وأصبحت محكمة الثورة مسلسلا من الذبح حتي إنه قتل6 آلاف شخص في6 أسابيع, فعلي قدر إيمانه بأفكار روسو وديدرو ومونتسكيو النبيلة, كانت وحشيته في حماية الجمهورية من أعدائها تحت سلطان جديد لزعيم متسلط شديد التعصب! أول ضحايا المتطرف هي أفكاره نفسها وإن كانت نبيلة, فخطب( روبسبير) النارية وأفكاره التقدمية وخصاله الشخصية الحميدة, فتحت له الطريق ليترأس الثورة, ويجمع الناس من حوله ولكن كل هذا تبدد مع تطرفه ومغالاته المقترنين باحتكاره للحقيقة, فاحتقرها أشد الاحتقار, فحول أصدقاءه وتابعيه إلي أعداء أشداء يخشون من بطشه وغلوه, فتآمروا ضده وساقوه إلي المقصلة, التي أذاق بها الأعداء والأصدقاء الإعدام, ما داموا يخالفونه الرأي والفكر! ولكن الظلم مردود علي من ظلم! واعتقد أن من أهم المآخذ علي ثورة( يوليو) بمصر المحاكمات المتسرعة التي لم يتوافر بها المناخ القضائي الواجب لتحقيق العدالة فيما سمي محكمة الثورة, بالإضافة إلي ضحايا التطهير من رموز النظام الملكي, وكان منهم علي سبيل السخرية سيدة سيدات العرب( أم كلثوم) والتي أنقذها الزعيم الخالد( جمال عبدالناصر), بنفسه, وأعادها لتسهم في الحياة الاجتماعية, وكانت أغانيها أجمل ما حمل آمال الثورة وأفكارها وطموحاتها, والتي مازالت باقية إلي الآن, بعد أن ضاعت معظم انجازات الثورة, وأيضا كان المفكر الكبير( توفيق الحكيم) ورائد المسرح العربي يحكي بمرارة شديدة عن إدراج اسمه في قائمة التطهير المعرض للفصل من الوظيفة ومن الحياة العامة, إلا أن ما أنقذه تقرير كتبه جدي الراحل الدبلوماسي المخضرم( د.حسن إسماعيل) عندما كان سفيرا لمصر في النمسا عن الآثار الايجابية لزيارة الفنان الكبير لفيينا علي سمعة مصر الدولية! النخب الوطنية المؤهلة علميا وثقافيا واستراتيجيا ثروة الوطن الحقيقية فهي من الوطن وللوطن, وليست ملكا أو حكرا علي نظام أو فرد, فلا تزر وازرة وزر أخري, فمن أخطأ من حقه وحقنا أن يتوافر له المناخ القضائي العادل ليحاسب علي ما ارتكبه, ومن أعطي وخدم وأنجز وقادر علي العطاء فجريمة في حق الوطن أن يظلم جراء التعميم الساذج أو الاطلاق الجاهل! وهو ما أدركه بعد فوات الأوان( فوكيه تونفيل) المدعي العام في حكم( روبسبير) الإرهابي, عندما عاقبته الجماهير الغاضبة بمثل ما ارتكب في حق الآلاف الذين قادهم للمقصلة, فقال لهم قبل إعدامه: أيها البلهاء, أبمثل هذا سيرخص خبزكم غدا؟! توفير الخبز لن يتحقق بهذا الانفلات الإعلامي التهيجي, والإثاري, والذي لا يملك أي حلول جدية لحل مشكلاتنا, غير بث الكراهية والشائعات والحلول الكاريكاتورية للمشكلات العويصة, التي تتطلب خطط تنمية علمية مدروسة منها القصير والطويل الأجل, وتحتاج من الناس إلي الصبر والجهد المضاعف, والأمل في المستقبل, والاعتماد علي الكوادر الوطنية صاحبة الخبرة, الذين مثلهم مثل( روبسبير) لا يمكن رشوتهم, ولكنهم ليسوا متطرفين مثله يأخذون الناس بالشبهات, ويعتمدون علي قول الله تعالي: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين صدق الله العظيم. المزيد من مقالات وفاء محمود