قال تعالى «وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق» ( الحج27) «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» (آل عمران 97). كم استوقفتنى كلمة «الناس» فى الدعوة إلى أداء مناسك الحج!فالدعوة لم تتوقف عند المؤمنين فحسب، ولا عند المسلمين فقط، ولكنها اتسعت لتشمل الناس جميعا! وسأعتمد هنا على رؤية الفيلسوف المتصوف محيى الدين بن عربى (560- 638 ه) الذى يرى أن الحج واجب على كل مستطيع من الناس مسلم، وغير مسلم! إذ أن الإيمان والإسلام واجب على كل إنسان، لكن يتوقف قبول الأفعال على وجود الإسلام.والإسلام: «هو الانقياد إلى ما دعاك الحق إليه ظاهرا وباطنا.»ولذلك « ما فى الكون إلا مسلم لغة. لأنه ما ثم إلا منقاد للأمر الإلهى». وعندما «أمرك أن تُحرم، فدخلت فى الإحرام، فصرت حراما» وما ثم عبادة هى تعبد محض فى أكثر أفعالها إلا الحج. فأفعال الحج أكثرها تعبدات لا تعلل، ولا يعرف لها معنى عن طريق النظر العقلى. لكن معانيها العميقة قد تكشف عنطريق علوم الكشف، والإخبار الإلهى الوارد على قلوب العارفين. ثم يقول ابن عربى: «لما جهل علماءالرسوم حكمة هذه العبادة (الحج)، من حيث إنهم ليس لهم كشف إلهى من جانب الحق،جعلوا أكثر أفعالها تعبدا. ونعم ما فعلوه!» إذ إن العلل غير مؤثرة فىإيجاب الحكم. ويقدم لنا ابن عربى بعض درجات الناس عندأداؤهم لعبادة الحج، فيقول: «يحج كبار الناس للهوى، وأوساط الناس للتجارة، وفقراء الناس للرياء والسمعة» بينما ما شُرع الحج إلا لذكر الله، والتفرغ لعبادته سبحانه. وحال العبدفى حجه، بحسب ما يقيمه الحق من الشهود فيه، مع «استمرار القصد فى طلب الله تعالى» فالمهم هو القرب من الحق عز وجل، لذلك قالبشر بن الحارث: «إدخال السرور على قلب امرئ مسلم أفضل من مائة حجة بعدحجة الإسلام». ثم يرتفع بنا ابن عربى إلى مستوى أعلى، حين يقول: «ولما جعل الله تعالى قلب عبده بيتا كريما وحرما عظيما، وذكر أنهوسعه حين لم يسعه سماء ولا أرض، علمنا قطعا أن قلب المؤمن أشرف من هذا البيت» ففى قلب العبد الحق تعالى، «من غير تشبيهولا تكييف، كما يليق بجلاله سبحانه» فليكن قصدك إلى البيت بربك لا بنفسك، فتكون ذا قصد إلهى. «وهو معكمأين ما كُنتم» ( الحديد 4) « فإذا قصدت البيت إنما قصدت نفسك، فإذاوصلت إلى نفسك عرفت من أنت، وإذا عرفت من أنت، عرفت ربك». والله سبحانه مع العبد فى شهوده على قدر علمهبه. ولذلك العارفون « لا يقطعون التلبية لا فى الدنيا ولا فى الآخرة. فإنهم لا يزالون يسمعون دعاء الحق فى قلوبهم مع أنفسهم. فهم ينتقلون من حال إلى حال بحسب ما يدعوهم إليه الحق».