على كثرة النعوت والأوصاف والمفاهيم والنظم المختلفة للديمقراطية، لا يعرف علم السياسة شبيها بديمقراطية «الحواوشى» التى نحياها فى بلادنا هذه الأيام. و«الحواوشى»، أعزك الله وعافاك، عبارة (كما يقول الأستاذ صلاح عيسى) عن رغيف عيش محشو بخلطة جهنمية قوامها الأساسى لحم مفروم ليس على ما يرام غالبا، وقد يكون فاسدا ومعفنا، لكنه معجون بكمية هائلة من البهارات الحريفة والحارة وظيفتها الأساسية طمس مذاق الفساد والتغطية على رائحة العفن. فأما بهارات الوضع «الديموقراطى الحواوشى» الحالى فهى هذه الجلبة الرهيبة وذاك الضجيج العارم الذى يعطى انطباعا ظاهريا بأن كل شىء وأى كلام مباح ومتاح، غير أنه فى العمق وخلف غبار الضجيج والجلبة لا يحتاج المرء إلى دراية ووعى كبيرين لكى يلاحظ أن الحالة غير مطمئنة، وأن هناك عفنا وفسادا يستفحل ويتفشى يوما بعد يوم بما يجعل وضعنا الراهن فى أبعد نقطة عن جوهر الديمقراطية وقيمها الأساسية، فضلا عن قواعدها الناظمة المتعارف عليها فى الدنيا كلها. نعم، فالديمقراطية كأداة ونظام انتهت إليه مسيرة ترقى البشرية وتحضرها لكفالة ممارسة آمنة لحق خلق الله فى التمتع بالحرية، ليست هياجا جماعيا عشوائيا منفلتا من أى قواعد أو محظورات، بل هى «لعبة» لها أصول وحدود صارمة تضمن أن لا تنتهك حريات الناس وحقوقهم الأساسية اللصيقة بكينونتهم الإنسانية بذريعة أن هذه هى الديمقراطية!! طبعا هذه ليست الديمقراطية أبدا، لأن الديمقراطية الحقة هى التى ترعى وتحمى بقوة حقوقا وقيما ومبادئ عليا كالمساواة والعدالة وعدم التمييز أو إيذاء البشر بسبب اختلافهم الطبيعى فى العرق أو الجنس أو اللون أو العقيدة الدينية وخلافه، ومن ثم لا يوجد فى هذه الدنيا نظام ينعت نفسه بالديمقراطى ولا يؤثم ويجرم ويعاقب بأشد العقوبات كل من يرتكب أفعالا أو يتفوه بأقوال فيها خرق لهذه القيم أو استخفاف بها، فهنا تتوقف حرية الرأى والتعبير والكلام، وتبدأ حدود محظور الإيذاء والإهانة والعدوان (ولو كان لفظيا) والتحريض على كراهية أى جماعة أو طائفة من الناس. غير أننا الآن نتسلى بالفرجة يوميا على ارتكاب كل هذه الجرائم والمحظورات بعدما صارت «نمرا» وعروضا أساسية ثابتة فى مهرجان ديمقراطيتنا «الحواوشية» الراهنة حيث لا قانون ولا حدود ولا أخلاق أو ضمائر تردع وتكبح جماح قطعان غشيمة جاهلة نراها وهى تسرح وتمرح وتعربد براحتها، ليس على مسرح السياسة فحسب وإنما فى أحشاء المجتمع وفى عقول وأرواح المواطنين البسطاء ناشرة التشوه والخراب والفتنة بينما هى آمنة مطمئنة تماما إلى أن يد الحساب العسير والعدالة الناجزة لن تطالها بعدما قيدت وغلت عمدا تطبيقا لسياسة «الطناش الوطنى» الشامل التى تدار البلاد بها هذه الأيام!! وبعد.. هل تصدق حضرتك أن ما فات كله مجرد مقدمة لتعليق ومعلومة أو إشاعة بلغت مسامع العبد لله مؤخرا؟! وأما التعليق فهو على أحدث فتاوى الجهل الإجرامى الذى تشيعه وتتوسل به بعض القطعان المستوردة (بمال وفير لا نعرف مصدره) من كهوف «تورا بورا» المظلمة، فقد زفت إلينا الصحف قبل أيام أن مفتيا بارزا ومسموع الكلمة فى أوساط هذه القطعان أفتى علنا وبوقاحة منقطعة النظير بحرمة تصويت الناخبين المسلمين لأى مواطن مصرى يترشح لعضوية البرلمان إذا كان هذا المواطن مسيحيا أو حتى مسلما لكنه يتبنى فى السياسة أفكارا غير الركام والروبابيكيا والنفايات المكدسة فى رؤوس أتباع فضيلته!! ولست أملك تعليقا على هذه الفتوى الفاحشة سوى علامتى التعجب المصلوبتين فى ذيل الفقرة السابقة، وكفى. فأما الشائعة فملخصها أن معالى المجلس العسكرى وحكومة سيادته بعدما لاحظا أن النص القانونى الذى يحظر تأسيس أحزاب على أساس دينى ويمنع استخدام الشعارات الدينية فى الدعاية السياسية صار نصا مهجورا ومجرد لغو فارغ لا قيمة ولا معنى له، فقد قررا استثماره واستغلاله فى شىء أكثر نفعا، وقد اهتديا بالفعل إلى فكرة تلحينه وتحويله إلى «غنوة» يشتريها ويشدو بها الأستاذ شعبان عبد الرحيم فى الموالد والأفراح والليالى الملاح.. وعقبال الأنجال.