ليلة وقفة عيد الأضحى قبل الماضى.. أثناء مرورى من أمام ممر الجريون المتفرع من شارع قصر النيل.. لفت نظرى إزدحامه ببنى آدمين بالهبل يتخذون فى وقفتهم شكل الدائرة التى يوجد فى مركزها شيء ما لا أعرفه.. الجميع يرفعون موبايلاتهم ويصورون هذا الذى يحدث فى منتصف الدائرة البشريه.. إخترقت الزحام فى سبيلى إلى إشباع هذا الفضول الفطرى الذى نولد به.. وأخيرا.. ها أنا ذا أقف وجها لوجه أمام الحدث الذى جمع كل هؤلاء البشر لمشاهدته وتصويره بالموبايلات على مثل ذلك النحو.. كانت هناك بقرة فى منتصف تلك الدائرة البشرية.. ترقد مسجاه على جانبها ليس لسبب آخر سوى أنها لا تملك الآن سوى ذلك الوضع الإجبارى الأخير.. بجانبها على الأرض تنام رقبتها المفصولة عن جسدها ما عدا جزء يسمح بالعبور الأخير للروح فى طريقها للخروج من الجسد.. عينى البقرة لا تزالان تتحركان بداخل محجريهما فى شكل أقرب إلى التساؤل عما يحدث بالظبط منه إلى الحركه الطبيعية للعين.. من المؤكد أنها كانت تتساءل بينها وبين الجزء الذى لا يزال متبقيا لها من نفسها عن كل تلك الموبايلات المصوبة نحوها فى فرحة لا تتناسب مع ما تمر به من لحظات صعبه.. من المؤكد أنها كانت تتساءل عن السبب الذى يجعل بشرا ما تعرفهمش يودون الإحتفاظ بكليب لها وهى تموت.. لم تسمح لها ماسورة الدم المندفعة من رقبتها المذبوحة بالتعمق فى الأسئلة الوجوديه أكثر من ذلك..كانت قواها قد بدأت تخور.. وكان صوت الزحام والتهانى التى أخذ الواقفون يهنئونهالبعضهم البعض قد بات مرتفعا وصاخبا.. إلا أنى كنت قادرا على تمييز صوت حشرجاتها بوضوح.. صوت التمزق الأخير لغلالة الروح الحريرية الناعمة أثناء عبورها من على خشبة مسامير الحياه الجسدية المتعارف عليها.. كانت أقدام الواقفين فى الصف الأمامى قد بدأت تتراجع إلى الخلف قليلا إثر إتساع بحيرة الدم المحيطة بالبقرة المذبوحه.. حركة أخيرة وواهنة وضعيفة تتحركها عين البقرة تلمح خلالها بعض الواقفين يغمسون كفوفهم فى دمائها التى تملأ الأرضية من حولها ليلطعونها على الحائط بعد ذلك كذكرى لتلك المناسبة ولهذا الحدث.. قد يكون هذا هو آخر ما شاهدته أعين البقرة أثناء حركتها الأخيرة لأعلى.. تلك الحركة التى صحبتها فلفصة أخيرة للأرجل.. ثم حشرجة وداع.. تصمت بعدها البقرة للأبد ! قبل أن يتهمنى أحدكم بأننى نباتى دسيسة.. إسمحولى أن أؤكد لكم أنى مثلكم تماما.. فمى ملطخ بدماء الكثير والكثير من الفراخ والأبقار التى شاءت لها الأقدار أن يصبح مصيرها النهائى على هيئة وجبة قد أتناولها أثناء مشاهدة فيلم فى التليفزيون مثلا.. وقبل أن يتهمنى أحدكم بأننى أشكك فى طقس ذبح الأضحية.. إسمحولى أن أؤكد لكم على أنه.. حاشا لله.. إطلاقا.. فالأضحية لا تختلف عما يفعله البشر فى أى حته على ظهر ذلك الكوكب على مدار 365 يوم فى السنه.. البشر جميعا يذبحون الحيوانات ويأكلونها طوال العام.. وليس فى عيد الأضحى فقط.. إذن.. لماذا كل تلك المندبة اللى عملتهالكو فى مقدمة المقال بسبب مشهد بقرة مذبوحة مثلها مثل جميع رفيقاتها على ظهر ذلك الكوكب ؟! ما أتحدث عنه هنا هو إحترام لحظة خروج روح من جسد كائن حى.. ما أتحدث عنه هنا هو تلك القشعريرة التى قد تصيبكم إذا ما رأيتم قطة دهستها سيارة مسرعة وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة على جانب الطريق.. أو شجرة تهتز أرض الغابة لها أثناء لحظة سقوطها عليها إثر قطعها بمنشار كهربائى.. ما أتحدث عنه هنا هى لحظات أخيرة فى حياة كائن حى.. أيا كان نوع ذلك الكائن.. لحظات أخيرة ينبغى علينا إحترامها.. فلتذبحوا كما شئتم.. ولكن بدون التحلق حول الذبيحه أثناء التطليع الأخير للروح.. بدون تسليط كاميرات موبايلاتكم على لحظات حشرجاتها الأخيرة وإغماضة أعينها النهائية عن ذلك العالم القاسى.. بدون تلطيخ كفوفكم بدم الذبيحة من أجل عمل تاتو للذكرى على الحوائط.. فنحن نذبح الحيوانات المسموح لنا بذبحها من أجل أكل لحومها.. وهذا مقبول.. ونحن نذبح فى عيد الأضحى تحديدا لإحياء ذكرى إفتداء سيدنا إسماعيل بكبش.. وهذا أيضا مقبول.. أما عدم إحترام لحظات ذبائحنا الأخيرة.. فهذا هو غير المقبول.. إنها أولا وأخيرا روح.. روح بصدد رحلة العودة إلى خالقها.. ألا تستحق رحلة مثل تلك منا قليلا من الإحترام والتبجيل؟!