لوحات الفنان سمير فؤاد والتي عرضت مؤخراً في قاعة بيكاسو بالزمالك ليست سردية حكائية بل هي مشهد اللحظة.. لكنها لحظة محملة بثقل عاطفي شديد.. وفي كثير من لوحاته يكون هناك رؤية مفاهيمية أو فلسفية أو علي الأقل تأملية. ولوحات معرضه هذا بدت لي خاضعة بدرجة كبيرة لمفهوم التحولات.. التحولات البصرية من الوجه المتماسك إلي الوجه المفكك.. والتحولات الفلسفية من اللحم الحيواني الذبيح إلي اللحم الإنساني الحي.. والتحولات النفسية من الصراخ إلي هيستريا الحركة.. وسأشير إلي هذه التحولات في مواقعها والتي بدت تحولاته أكثر ما تكون وضوحاً في الجسد.. الجسد الإنساني كمادة، الذي أراه ليس فقط من أروع المواضيع لكن من أكثرها مراوغة.. فالمظهر الخارجي لشخوصه ندركه ونحن نراهم يعيدون تشكيل أنفسهم أمام أعيننا خلال ذلك البناء اللحمي تحت ضغط وتوتر قلق مخبأ في الشخصية البشرية.. الشخصية التي جعلها في أكثر من حوالي الخمس لوحات مرتبطة في المكان مع اللحم الحيواني المذبوح المعلق في خطاطيف ما بعد الذبح.. لندرك ان هناك شيئاً ما غريباً في تعليق اللحوم النيئة.. وأيضاً لندرك كل هذا الموت الذي تلي الذبح ليصبح للبيع.. أي هو موت للبيع في ألوان ينسحب منها لون الحياة الزاهي في سيريالية لأجدها مفسرة في لوحاته لأنه ليس هناك سياق حكائي داخل اللوحة.. لذلك وبدون ذلك السياق الحكائي هل يهتم سمير فؤاد بالجسد المادي أم باللحم ذاته؟.. وحين نري في مسطح واحد لحم ذبيحة نيئة اللحم في مقابل اللحم البشري الحي فإلي أي مدي يدفعنا هذا إلي النظر إلي منطقتنا الحيوانية؟.. خاصة وهناك ارتباط وثيق يربط اللحم الحيواني المادي الذي يشبه نسيج ولون لحمنا بل انه يصبح جزءاً من أجسادنا البشرية علي المدي الطويل.. فكل ما نأكله يصبح نحن.. وأكلنا للحم الحيوان يتحول إلي لحمنا في النهاية.. وتبعاً لنسبة استهلاكنا للحم الحيواني الذي هو لحم ميت.. ذلك اللحم الميت الذي بأكلنا له نمد له في الحياة من جديد داخل أجسادنا أي داخل نطاق جديد. لذلك لوحات سمير فؤاد لا أراها مجرد قدرة تعبيرية عن ماهية اللحم المذبوح واللحم الحي كجسد فقط بل أراه وسيلة استكشاف الموت والتأمل الذاتي وأيضاً هو رمز لثقافة الاستهلاك في عصرنا.. كما ان هناك دلالات كثيرة للحم من كونه لحماً حيوانياً أو بشريا لأن العلاقة بينهما تراكمية معقدة. كما أري رؤية فلسفية في أعماله بذلك اللحم المذبوح الذي يدخل في نسيج حياة جديدة بتحوله لأجسادنا ثم تتحول أجسادنا للترهل إلي التلف النهائي السريع لأراه يقدم رؤية بما تشبه دورة الحياة خاصة في لوحاته الجامعة في مواجهة ومباشرة بين الذبيحة والإنسان كتجسيد للطبيعة الدورية للحياة والموت. كما استطاع الفنان ان يخوض إلي مناطق غير مدركة للجسد بين مظهر اللحم البشري والحيواني كمادة تحت الجلد لكن من خلال الهيئة الخارجية كرؤية مزدوجة تبادلية رغم ان أحدهما مستقل عن الآخر وان أحدهما مستودع للآخر. فنلاحظ في اللوحة أمامنا لهذا الصبي حارس اللحم والذي بدا كقطعة منه في لونه ومنظور الرؤية تماماً كالعاملين في المشرحة تصبح وجوههم صفراء باهتة ينفس لون برودة الموت الذي يتعاملون معه يومياً.. وفي هذه اللوحة نلاحظ استخدام الفنان لفرشاة سميكة قاسية للإيهام بعملية الذبح التي لم نرها وليمثل اللحم الحيواني في حال تجلده بتعرضه للهواء والذي أصبح باهتاً في مناطق ليتسق تماماً وتجلد وجه الصبي رغم صغره.. ويمكننا استخلاص مفهوم أكبر من مجرد تقابل لحمي الذبيحة والحي علي مسطح واحد.. فلحم الذبيحة يوحي بوجود سكين مسبق حاد وقاتل بينما جعل الوجه البشري في حالة من التأرجح الاهتزازي. وندرك هذه الاهتزازية العنيفة للجسد في لوحته التي تصور امرأة متحركة في حركات خمس متتالية مما جعل الإيقاع في لوحته يصبح هو نفسه كاشفا عن احساس وسجل لتدفق زمني حتي ولو للحظات. وهذه الإيقاعات خلقت حالة توتر نشط نراها في وجوه شخوصه وأجسادهم وقد زادت من مساحة التقلص والتمدد لساحة الجلد ليكشف الجسم والجلد عن نفسه.. وعن حدود هيئته الخارجية.. وليوحي أيضاً بوجود معاناة فائقة أطاحت بالوجه وجعلت الجسد كما في لوحتيه سجن «أبو غريب» مجرد قطع لحمية بشرية متراكمة فوقها فوق البعض كأنه مشهد لذبائح متراكمة في ركن ما بعد ذبحها في طبقات من الجلد العاري. ويمكننا تصور سهولة تحول الفنان في لوحاته في انجازه لها بشكل متقارب أو متزامن داخل مرسمه وتحوله من رسم لحم الحيوان المذبوح إلي رسم الوجه النسائي الشبه مهترئ ثم رسم الأجساد المتجلدة لأتساءل عن أي منهما سبق الآخر في ذهن الفنان واعتمل في روحه قبل ان يعصف بها فوق سطح لوحاته.. وهل للوحاته وهي أكثر من خمس لوحات تقريباً صارخة بتمثلها لوجه يطلق صرخة من تأثير من ذلك التقابل المعقد ليجعل الفم هو الثقب الذي يهرب منه الجسم كله بتلك الصرخة.. كاشفاً عن الروح وعن قوة الدفع الجبار للصوت الغاضب من داخل الجسد الإنساني. أعتقد ان الصراخ بهذا البراح يبلغ به الفنان النقطة القصوي.. نقطة كونية بشرية مطلقة يعتمل داخلها تقلصات وتمديدات وتحولات هيستيرية إشارة إلي واقع هيستيري من الجسم مرئي لما هو غير مرئي. قدم الفنان الكبير سمير فؤاد زحام رؤي في مراقبة للأشياء وليس في سرديتها.. ليفسر ما تبقي من الحركة وليس العكس في مستويات من الإحساس المكثف إشارة إلي حواس ندركها، اهتزازاً وإيقاعاً وأصواتاً. ربما أراد الفنان إيجاد علاقة بين اللوحة والهيستيريا متضمنة هيستيريا الذبح.. فالصراخ.. فالتحولات إلي التلف والزوال.. انه بكل ثقله عمل بلوحاته علي أعصابنا وضغط عليها بشدة.