المصيبة أننا ولفترة طويلة جدا هانت علينا أنفسنا وأرواحنا وإنسانيتنا، لدرجة أننا أصبحنا أساتذة وخبراء فى ممارسة أبشع طرق تدمير الذات الإنسانية، التى تقوم وترتكز أساسا على «الاستباحة». نستبيح الآخرين ونستبيح حقوقهم لمجرد أننا تكيفنا على الإهانة وسوء تقدير الذات والتعامل مع الفساد اللا منطقى الذى يفوق كل الحدود، الذى يتسم بالبجاحة والعلانية والجهر والفجر.. كل هذا رضينا به واستبحناه لأنفسنا ولغيرنا وسمحنا للفاجرين باستباحتنا ونحن مستنكرون أحيانا وراضون أحيانا ومحبطون أحيانا وعاجزون أغلب الوقت.. إلى أن جاءت اللحظة التى صرخنا فيها ونحن رافضون استمرار مسلسل «الاستباحة»، وكانت الثورة العظيمة. إذن.. لماذا كأننى أريد تقليب المواجع علىّ وعليكم الآن؟ لأننى ببساطة أكتب هذه السطور وأنا على بعد قارات تبعدنى عن مصر، التى لا أعلم لماذا يراودنى شعور جديد علىّ بعد الثورة، هو أننى إذا اضطررت إلى السفر خارجها، ينتابنى إحساس بالذنب والتقصير، إحساس بالتخلى أو بالبلدى «الندالة». هو إحساس بلا شك غريب وغير منطقى ويقارب الهلوسة إلى حد كبير، لأنه يعطى انطباعا بأننى أقوم بدور فعال وحيوى ومصيرى فى تاريخ وتشكيل مصير البلاد، إلا أن إحساسى وأنا فى مصر هو إحساس لا يتسم بالندالة لكنه يتسم «بالخيبة القوية»، لأن درجة أفعالى أو حتى أفكارى الطيبة تجاه خدمة بلدى لا تتوافق مع سرعة الأحداث وتشابكها ولعبكتها، لكن على الأقل الوجود بالقرب من الأحداث يشبع إحساسا وهميا لدىّ بأننى جزء من الحدث.. سحر أن تكون أنت والحدث على نفس الأرض والأرضية أمر بلا شك لا يستهان به، بل نعمة عظيمة. لم أجب عن السؤال حتى الآن وهو: لماذا تعنّ على أوجاع الاستباحة وأنا على الجانب الآخر من الأرض والحياة والتفاصيل؟ مشاهد الاستباحة تفرض نفسها علىّ ومعى وأنا فى أمريكا «الشيكا بيكا»، أعانى من مشاهد الجمال والرحمة والإنسانية والأخلاقيات، أعانى من مشاهد الانضباط والقانون المرعب الذى يحكم بمنتهى القوة والوقار، ومن المؤكد أننى لن أفاتحك فى السيرة «إياها» وهى المقارنة بيننا وبينهم، ولن أذكرك بجملة المفكر الإسلامى والمصلح الشيخ محمد عبده عندما سئل عن انطباعه حول زيارة قام بها لإحدى دول الغرب فأجاب «وجدت إسلاما بلا مسلمين»، أما فى بلاد الإسلام فوجدت مسلمين بلا إسلام، فترديد جملة كهذه فى تلك الأيام السوداء الغبراء الكئيبة كفيل بأن يخلق هياجا عبثيا جاهلا لا يسمن ولا يغنى من جوع. ولكن الحقيقة هو أن المحرك الأساسى لتقليب مواجع الاستباحة هو أننا وبعد ثورة 25 يناير، لن يكون هناك مزيد من مسلسل الاستباحة، كما أننى تفاءلت، بل تصورت أنه آن الأوان ليتعافى المجتمع ويغسل دمه من سموم التكيف على الإهانة والإباحة و«القباحة» والاستباحة، لدرجة أننى سافرت بعد تنحى المخلوع بشهور قليلة جدا. كنت فى أوج نشوتى وفخرى وكانت ردود الفعل العالمية ما زالت فى طور الانبهار والإعجاب بما أحدثه الشعب المصرى فى ثورته البيضاء العظيمة الراقية، وكنت أشاهد كل مشاهد المقارنة المفزعة التى كانت تغضبنى وتحزننى منذ سنوات على مصر، وكنت أرى كل هذه المقارنات اليومية فى رحلاتى السابقة بعد الثورة مباشرة ويقينى بداخلى يحدثنى بمنتهى الفخر، هانت، سيعيش ابنى حالة التحضر والإنسانية والرقى والاحترام الآدمى البديهى فى بلده. أخيرا سيتحقق الحلم بحياة أفضل لأولادنا، وكان شعورى بقرب الموعد فائق الحد من التفاؤل، وكنت أرى أن دم الشهداء هو الأجر الذى دفعه هؤلاء الأبطال العظماء لأجل ابنى. قاربنا على الأشهر العشرة، والاستباحات فى مزيد ومزيد بشكل متصاعد وعنيف، يجعل الصورة من بعد شديدة التوتر والقلق. تابعت لقاء المجلس العسكرى مع الإعلاميين إبراهيم عيسى ومنى الشاذلى والحقيقة أننى من بين سطور كلامهم أشم رائحة «الاستباحة» بقوة وبعنف، يزيدها ضعف وفشل الحكومة المصرية التى بضعفها توافق موافقة صريحة على الاستباحة لدرجة أنها أصبحت شريكة فيه. لن أحلل حديث المجلس ومضمون خطابهم، فقد فعل ذلك باقتدار من هم أوسع وأكثر منى علما وفهما فى العلوم السياسية، ولكننى بالفعل خرجت من مشاهدتى للحوار بأنهم يمشون على نفس الدرب، وهو أنهم لا يسمعون غالبا إلا أصواتهم، جملهم تؤكد أنهم أبعد ما يكون عن الشارع المصرى. كلمة الشعب المصرى قاسم مشترك فى كل أحاديثهم المكررة المتكررة ولكنك لا تشعر أبدا بمطالب هذا الشعب الثائر التى تتلخص فى: كرامة وعدالة وعدم استباحة. فإذا بالوقت يطول وعداد الزمن يسجل فاتورته على المصريين وبقاء المجلس والحكومة العاجزة يغرسان جذورهما وتزداد الأحداث والكعبلة، وإذا برائحة تذكرك بالألم والوجع المتكرر: هل لى أن أستبيحك هذه المرة أيضا.. عذرا!