ما نريده هو عدالة عمياء، لا عدالة مؤجلة، لا تفرق بين أنواع البشر، ولا تنظر إلى معتقداتهم ولا ألوان جلودهم ولا حجم ثرواتهم، فهي تحاول أن تحقق روح القانون، وتضفي على أحكامها طابعا أخلاقيا يقف حاجزا ضد الظلم وسيادة الغاب. في رواية «تراب الماس» يبدو الأديب الشاب أحمد مراد وكأنه يتنبأ بما سيحدث، فالرواية التي كتبت قبل الثورة بنحو عامين، لم تتعرض فقط لأوجه الفساد التي كانت مستشرية في عديد من مؤسسات المجتمع المصري، ولكن كاتبها كان يدرك أن القانون سيظل عاجزا عن أن يطول الذين كانوا سببا في هذا الفساد، وأصبحوا رموزا له، وأن عليه أن يستخدم وسيلة أخرى، مباشرة وفعالة لتحقيق هذه العدالة، يقوم بطل الرواية باستخدام مادة تدعى تراب الماس للتخلص من الفاسدين الذين لا تطولهم مواد القانون، وهي مادة تستخدم في ورش صناعة المجوهرات لتجلية الماس وتنظيفه، وهي تترك آثارا مفزعة على الجلد، وتسبب للضحية موتا قاسيا ومعذبا، وعلى الرغم من ذلك فهذه المادة لا تترك آثارا سمية داخل الجسم، مما يجعل من الصعب على الشرطة إثبات أن هناك جريمة قد تمت، وأن هناك جانيا لا بد من تتبع آثاره، والأعداء المستهدفون لم يكن بينهم وبين بطل الرواية نوع من العداء الشخصي، ولكنهم كانوا أناسا يحتلون مراكز بارزة في النظام الحاكم، ويستغلون هذه المراكز ليمارسوا كل أنواع الفساد، سرقة، ودعارة، ومخدرات، واستباحة المال العام، صورة طبق الأصل من أعضاء النظام السابق الموجودين خلف القضبان الآن، والمشكلة أن هؤلاء جميعا ليسوا فقط فوق القانون، ولكنهم هم الذين يقومون بتطبيق القانون على الآخرين، فمن أشهر رموز الفساد في الرواية واحد من كبار قيادات الشرطة السابقين. المشكلة في فساد الشرطة أنها الأداة المكلفة بصيانة القانون وتنفيذه، لكنها تحولت في الرواية، كما حدث في الواقع أيضا، إلى حماية الفساد والتستر عليه، وأصبحت حاجزا يمنع وصول المفسدين إلى الأجهزة القضائية المكلفة بإقرار العدالة، وحتى عندما كانت تصدر الأحكام كانوا يقومون بتعطيل تنفيذها، من أجل هذا كله يقرر بطل الرواية أن ينفذ العدالة بنفسه، يقيم من نفسه قاضيا وجلادا في الوقت نفسه، لذلك يقتص من كل المفسدين ويضع لهم في الشراب تراب الماس، الذي يسري في دمائهم، ويحقق فكرة العدل المطلق كما يحلم بها.
أخشى أننا في مصر سائرون إلى تلك الحالة، فهناك إحساس عام بأن القانون غير قادر على إنصافنا، غير قادر على الأخذ بثأر الشعب المصري من الذين أذلوه على مدى ثلاثين عاما تجرع فيها كل أنواع المرارة والمهانة والذل، سلبت فيها حريته، وبيعت مصانعه، ونهبت ثرواته الطبيعية، وبيعت للأعداء بأبخس الأسعار، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ولكن تم اغتيال زهرة شبابه في مقتلة عظمى وعلنية. المشكلة أن الأخبار التي تتسرب عن هذه التحقيقات تعكس برودا ولا مبالاة غريبة من جانب الطرفين، جانب المتهمين وجانب رجال التحقيق، فالرئيس السابق يرد بلا مبالاة عن قتل المتظاهرين، ويدعي أنه سمع أن كلهم من رجال الشرطة، ووزير الداخلية السابق ينكر أنه قد أعطى أي أمر بإطلاق النار، وضباط الشرطة ينكرون أنهم كانوا يحملون أي ذخيرة حية، وحتى وزير الداخلية الحالي يؤكد أن الشرطة لم تقتل سوى بعض البلطجية أمام الأقسام، ويأخذ في البكاء على السيارات المحترقة من دون مبالاة بالأجساد التي دهستها هذه السيارات، الجميع ينكرون حقائق واضحة ومؤكدة ومسجلة بالصوت والصورة، وكل من لديه دليل يسارع بإخفائه، بل ويتركون القتلة من ضباط الشرطة في مناصبهم يهددون أسر الضحايا وينكلون بهم، وفي مواجهة هذه الأهوال تبدو قبضة العدالة هادئة ومتراخية، تميل للتأجيل ولا تسعى للحسم، وتتخذ من التسويف وسيلة لامتصاص شحنة الغضب من نفوس الشعب المكلوم. ولعلنا نذكر تلك السيدة المصرية الثكلى التي فقدت أحد أبنائها، وهي تصرخ في أحد برامج التليفزيون، عندما علت نبرة العفو عن الرئيس السابق حسني مبارك، أنه إذا حدث هذا فسوف تقتحم مستشفى شرم الشيخ وتقوم بقتل الرئيس القاتل بنفسها، وأعتقد أنه كان يشاركها في ذلك الصراخ حناجر مئات الآباء والأمهات الذين يتجمعون أمام أبواب المحاكم كل يوم، بحثا عن عدل لم يتحقق وقصاص يتم تأجيله من دون سبب إلا إذا كان التواطؤ سببا. إنها ليست صرخات الانتقام، ولكنها استغاثة أخيرة من أجل تحقيق العدالة بواسطة مؤسسات قانونية وقضاة مجهدين ومترددين، لا يستطيعون حسم أمر القضايا المنوطة بهم، فالعدالة ليست عمياء فقط، ولكنها صماء أيضا، لا ترى المتهم، ولا تسمع صرخات الضحايا، كل ما يهمها هو الأوراق الباردة والأدلة المحايدة، فالقاضي الذي نظر في قضية غرق العبارة الشهيرة لم يسمع صرخات الضحايا، ولم ير وجوه الأهالي والأرامل وهم يستصرخون طالبين عدل الله، لم يبال بمشهد الغرقى، ولا الجثث التي تم انتشالها، كل ما حظي باهتمامه هو عدة مستندات جامدة أعدت بعناية، وبقصد إجرامي، حتى يفلت المتهم الرئيسي من العقاب. هذه هي الأزمة الرهيبة التي يواجهها جهاز العدالة الآن في مصر، فهو لا ينظر في أمر حفنة من المتهمين ارتكبوا أخطر الجرائم التي عرفها التاريخ المصري فقط، ولكنه يحقق في ميراث ثلاثين عاما متواصلة من الحكم المطلق، مدة طويلة وقاسية من السنوات منحت أعضاء النظام السابق القدرة على لي أعناق القوانين لمصلحتهم، وإضفاء الشرعية على كل عمليات السلب والنهب والتزوير التي قاموا بها، وبل وقاموا أيضا بشل عمل الأجهزة الرقابية وإرغامها على تغيير التقارير السنوية التي تقوم بتقديمها والتغاضي عما قاموا به من جرائم. كيف يمكن أن تطول القوانين العادية التي وضعت من أجل أناس عاديين مثلنا، غير متنفذين، وغير قادرين على إخفاء آثار جرمهم، ليحاكم بها أناس لم يكونوا أبدا عاديين، وكانوا دائما فوق القانون هم وأبناؤهم وزوجاتهم وأعوانهم ومديرو أعمالهم، والمشكلة إن المنوط بهم إقرار العدالة لا يؤمنون بأهمية ذلك، فبعض رجال الشرطة ما زالوا يضيقون ذرعا بتطبيق القانون ما دام ليس في مصلحتهم، ومن الواضح أن بعض القضاة ما زالوا يؤمنون بالحق الإلهي للملوك، وأنه لا يجوز محاكمة الرئيس مهما كانت أفعاله. فكيف تتحقق العدالة في مصر، كيف نحققها في بلد زرع فيه الظلم منذ آلاف السنين، وتعود على الصبر، على الضيم؟ هل نطلب منه أن يواصل مد حبال الصبر لعشرات السنوات الأخرى، أم لم يعد في القوس منزع، أم أن علينا أن نستخدم تراب الماس كما يقترح علينا الكاتب الشاب أحمد مراد، أم نؤلف الجمعيات السرية التي تكون مهمتها القيام بعمليات من الاغتيالات يتم فيها تصفية الفاسدين، أم نكلف كل مواطن يعرف فاسدا بالقيام بقتله من دون تردد، أم نستحضر روح الإلهة الفرعونية «ماعت»؟ لقد كان أجدادنا يؤمنون أن الإلهة «ماعت» ربة العدل والحق كانت تقوم بمحاكمة المتهم بنفسها، وإذا تبين أنه مدان والجرم ثابت عليه، تحولت «ماعت» في الحال إلى لبؤة جائعة تثب عليه وتأكل قلبه، ولا أعرف إن كانت هذه أسطورة خيالية أم أنها رغبة كامنة في الذات المصرية؟ فالفلاح المصري يمد حبال صبره حتى آخر مدى، ولكنه لا ينسى أبدا ثأره، ومهما تم تأجيل العدل الذي ينشده فسوف تأتي اللحظة التي يمد فيها أظافره ويلتهم قلوب ظالميه.