جاءت أحداث ماسبيرو الدامية، أول من أمس، مفاجئة وصادمة فى أحداثها وتداعياتها، لكن مراقبين للمشهد وقريبين منه يرون أنها أحداثا كانت متوقعة. بين الرأيين تتيه حقيقة ما حدث. نحاول هنا الإلمام بالتفاصيل، علها تنتهى بنا إلى رواية منطقية لحقيقة ما حدث.. المسيرة التى انطلقت من منطقة دوران شبرا، أول من أمس، كان معلنا عنها منذ الخميس الماضى، تنديدا بأحداث كنيسة مار جرجس، فى قرية المريناب، مركز إدفو، بمحافظة أسوان. قائمة مطالب المتظاهرين ضمت إقالة محافظ أسوان، اللواء مصطفى السيد، بسبب تصريحاته التى اعتبرها المتظاهرون مسيئة، ومحاولاته تضليل الرأى العام، والتحقيق مع مدير أمن أسوان، والقبض على المعتدين على الكنيسة، وسرعة إصدار قانونى دور العبادة الموحد ومنع التمييز. لم يكن معلنا، الأسبوع الماضى، عن أى نية لاعتصام المتظاهرين أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون، إلا أن إعلان المتظاهرين، يوم الثلاثاء الماضى، الاعتصام فجأة كان له بالغ الأثر فى إصرار الجيش على عدم دخول المتظاهرين ساحة مبنى الإذاعة والتليفزيون. انطلقت المسيرة، كما كان مقررا لها، الساعة الثالثة والنصف عصر أول من أمس، من دوران شبرا، فى اتجاه ماسبيرو. وفى الطريق شهدت المسيرة انضمام حشود ضخمة، نظرا للكثافة السكانية للأقباط فى منطقة شبرا، إذ كان النساء والفتيات ينزلن للانضمام إلى المسيرة عقب مرورها بجوار بيوتهن. زاد من حماس المتظاهرين انتشار شائعة، أطلقها عمدا، بعض شباب ماسبيرو، وجود الأنبا يؤانس، السكرتير الشخصى للبابا شنودة الثالث. إضافة إلى عدد من الكهنة الذين اعتادوا المشاركة فى مظاهرات الأقباط، مثل القس فلوباتير جميل، كاهن كنيسة العذراء فى فيصل، والقمص متياس نصر، كاهن كنيسة العذراء فى عزبة النخل.. تحركت المسيرة ووصلت لذروة حشدها عند نهاية شارع شبرا، حيث وقعت احتكاكات بين المتظاهرين وساكنى منطقة القللى وبعض المارة على كوبرى الليمون. كانت الاحتكاكات فى صورة تراشق بالحجارة وطلقات نارية فى الهواء، أسفرت عن إصابات طفيفة بين المتظاهرين، اعتدوا على أثرها على 3 ميكروباصات وحطموا زجاجها. وأكملت المسيرة تحركها، حتى وصلت إلى منطقة ماسبيرو، قرابة الخامسة عصرا، وقد تجاوز عدد المشاركين فيها عشرات الآلاف، وقدرهم البعض -قبل اندلاع الاشتباكات- بنحو 50 ألفا.. انقسم المتظاهرون إلى فريقين، منهم من أراد الوصول إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون، عبر الشارع المجاور لفندق «هيلتون رمسيس» المؤدى إلى ماسبيرو، ومنهم من فضل التحرك عبر الكورنيش، ليجد المتظاهرون مجموعة شباب الاتحاد القبطى، الذى يضم عناصر من الطوائف الثلاثة، كانوا قد سبقوهم إلى منطقة ماسبيرو. الشرطة العسكرية أحكمت السيطرة على جميع مداخل ساحة مبنى الإذاعة والتليفزيون، وأقامت كردونات على جميع المنافذ، وعقب وصول المتظاهرين أطلقت قنابل مسيلة للدموع بهدف تفريق المتظاهرين، إلا أن احتكاكات مباشرة جرت عند أطراف الكردونات الأمنية، سواء من جهة الكورنيش أو من الشارع المجاور للفندق. ظلت الاحتكاكات فى حالة شد وجذب، حتى اعتدى المتظاهرون على أعمدة الإضاءة وحطموا عددا كبيرا منها، إحساسا منهم بالعجز، فى مواجهة قوات الجيش. فى خضم الاحتكاكات المتكررة اعتدى المتظاهرون على بعض مدرعات الجيش، التى كانت فى حيزهم، وخارج الكردون الأمنى، فبدأ أفراد الجيش فى التصدى للمتظاهرين، مما تسبب فى سقوط أول شهيد الساعة الخامسة والنصف تقريبا، عند مدخل منطقة ماسبيرو، على طريق الكورنيش.. حمل المتظاهرون الشهيد وجابوا به أنحاء المنطقة ليتفاقم الغضب فى النفوس، ويبدؤوا اقتحام الكردون الأمنى وإشعال النيران فى 3 سيارات خاصة، وأوتوبيس تابع للقوات المسلحة والمدرعات العسكرية الموجودة بالمنطقة، التى كانت تقف فى منطقة التماس مع المتظاهرين. زادت الصدامات، وهاجم المتظاهرون قوات الجيش بالحجارة وقطع حديدية، اقتلعوها من كوبرى 6 أكتوبر، فواصلت قوات الجيش والأمن التصدى للمتظاهرين، وخرجت معظم المدرعات من سكونها لتفريقهم، وهو ما تسبب فى سقوط عديد من القتلى والمصابين من الجانبين، المتظاهرين ورجال القوات المسلحة وقوات الأمن. انفصلت بعض أفراد الجيش والأمن، خلال مطاردتهم المتظاهرين، عن القيادة المركزية، فهاجمهم المتظاهرون بشراسة، حتى أسقطوا وأصابوا منهم أفرادا عديدة، وتم نقلهم إلى المستشفيات بسيارات المارة.. ترددت بين جموع المتظاهرين وقوع عدد كبير من الضحايا، ليتأجج الغضب ثانية، وتزداد المواجهات شراسة، ومع تزايد الصدام، حتى الساعة الثامنة، بدأت تظهر على الساحة، عناصر لا علاقة لها بالتظاهرة، جاؤوا من مناطق قريبة من ماسبيرو. ومع مرور الوقت ظهرت جماعات أخرى من البلطجية، وحاملى السيوف والسنج، وتراجعت مواجهات قوات الجيش مع المتظاهرين، وتقدم الوافدون لمواجهة المتظاهرين، مما أدى لوقوع مزيد من الضحايا.. قرابة الساعة التاسعة، بدأ عدد المتظاهرين يتراجع، حيث انصرف عديد من السيدات والفتيات، اللاتى شكلن نسبة كبيرة من قوام المظاهرة، خوفا على أنفسهن. كما انسحبت غالبية قيادات اتحاد شباب ماسبيرو، لمتابعة حالات الضحايا فى المستشفيات. فى تلك الأثناء أصدر البابا شنودة الثالث قرارا لجميع الأساقفة والكهنة بمنع الظهور فى الإعلام، وأجرى المقر الباباوى اتصالات هاتفية ببعض من اعتاد الظهور فى الإعلام، حتى لا يسجل موقفا، يُحسب على الكنيسة فى ما بعد، حيال ما يحدث. مع حلول الساعة العاشرة تزايد عدد الوافدين من المناطق القريبة من منطقة ماسبيرو، وتراجع عدد المتظاهرين بشدة، حتى اختفى المتظاهرون تماما، وظهرت على الساحة عناصر أخرى، كان من بينها أنصار الجماعات السلفية. وترددت أنباء عن قيام السلفيين بتنظيم مظاهرة من ماسبيرو حتى ميدان التحرير، تندد بمظاهرات الأقباط. وفى تمام الساعة الواحدة صباحا بدأت عناصر من الجيش تخاطب ما تبقى من الحضور فى ميدان التحرير وميدان عبد المنعم رياض، لتنفيذ قرار حظر التجول.