كلما أصبح المشهد معتادا ومقبولا استحق الأمر منا الشعور بالخطر، فهل ما زلنا نحتمل «وكسة» الاعتياد أكثر مما احتملناها من قبل ودفعنا وما زلنا ندفع ثمنها؟ لا أظن! رغم روعة ما يمكن أن تشهده وتشاهده فى جمعات الإصرار على الثورة، واستردادها، وحسمها، وإنقاذها، وكل جمعات كفاح واكتشاف المصريين أكثر وأكثر فى الميدان.. فإن الخطورة الحقيقية هى الاعتياد.. أن نعتاد على الاستياء والرفض والاستنكار، ويعتادون هم أيضا على صرخات الشعب واحتجاجاتهم ورفضهم لأى شبهة ظلم واستبداد. أخشى من مشهد اعتياد الحديث عن وقائع الظلم، وما أقساه وأبشعه ظلما عندما ترويه أم حرقة وألما على ابنها، وأظنكم متابعين، أو على الأقل صادفتكم أم صامدة باكية، محترقة ألما على ابنها الشاب الصغير -ولو حتى على شاشات التليفزيون- وهى تروى ما حدث لابنها الذى اعتقل ظلما بتهمة ممارسة حقه فى التظاهر أو التعبير السلمى أو حتى الوجود صدفة فى الشارع فى أثناء احتجاج شعبى يكفله له الدستور. وكيف أنها لا تفهم لماذا قبض عليه؟ ولماذا مثل أمام النيابة العسكرية؟ ولماذا لا يستطيع من هم يدعون أنهم حماة الثورة ورعاتها أن يفرقوا بين الشاب المصرى الواعد وبين البلطجى؟ فهل التعبير عن الحق والرأى بلطجة؟ كثير من الأسئلة المطروحة من قلوب وأفواه أمهات «محروقة قلوبهن»، لكنهن صامدات ومثابرات، أراهن فى ميدان التحرير، وفى جمعات متتالية، يقفن على المنصة، مبحوحة أصواتهن ومناديات وراجيات: «عاوزين سيادة المشير يسمعنا ويعرف إن ولادنا.. ولاد مصر، شباب يستحق أن تفخر بهم مصر، مش يتقال عليهم بلطجية».. وكثير من الجمل الموجعة التى تتردد من أمهات على منصة التحرير، وعلى شاشات التليفزيون ولا أحد يسمع ولا أحد يرد.. وكأن السيناريو يعيد نفسه، ولكن بوجوه جديدة ومختلفة. أمهات إذا تأملت وجوههن ستكتشف لو أمعنت البصر والبصيرة، أن دموعهن إما جفت وإما تحجرت، ولم يعد أمامهن سوى الاستمرارية والمثابرة والجرى على ميدان التحرير.. وكم أخشى أن يصبح هذا الجرى جريا «فى المكان». على كرسى بلاستيك فى ميدان التحرير، تجلس أم الضابط ملازم محمد طارق وديع، وأمامها صورة كبيرة تجمعه مع 22 ضابطا آخرين، أصبح مكانهم ومصيرهم السجن الحربى، جراء وقائع يوم 8 أبريل، عندما نزل هؤلاء الضباط الشباب فى ظل اندفاع عاطفى بحب البلد وانتمائهم وعواطفهم التى تحركت، ليقولوا إنهم متضامنون مع حق الشهداء، نزلوا ليقولوا «يا أم الشهيد أنت أمى، والشهيد أخى، ويدنا جميعا شعبا وجيشا لاستعادة حق دماء الشهداء»، هؤلاء الضباط الذين سجنوا فى السجن الحربى بتهمة، كل ما أعرفه عنها ويعرفها ذووهم وأمهاتهم عنهم أنها لم تكن تهمة خيانة الوطن، ولا الغدر به، ولا نهب ثرواته والمال العام، شباب كل ما فعلوه أنهم انفعلوا عاطفيا بحب البلد -فى إطار ثورة وتضامن مع الشعب- لا ضد المؤسسة العسكرية، أليس هدف ومشاعر المؤسسة العسكرية نفسها هو التضامن مع الشعب لا عليه؟ ربما يكون فى الأمر قوانين ملزمة لمن ينتمى إلى المؤسسة العسكرية، ولكن هناك روح قانون كفيل بأن تتم التفرقة بين مواطن غدر وقتل ونهب وسرق وأفسد ويحظى بسجن خمسة نجوم وشباب كل تهمتهم أنهم يريدون وطنا بالفعل، كل تهمتهم أنهم غاروا على دماء شباب مثلهم سالت دون حق. هؤلاء الضباط الذين بلغ عددهم 22 ضابطا محكوم عليهم بسنتين وأربع وعشر، يعيشون فى «زنازين» ضيقة، الطويل منهم ينام رافعا ساقه على الحائط -كما روى لى والد أحدهم- يأكلون طعاما مليئا بالحشرات والصراصير، يحرمون من ممارسة الرياضة إلا فى بقعة أرض لا تتعدى بضعة أمتار، محرومون من طعام خارجى فى أثناء الزيارة، يعانون من حالات اكتئاب لسوء المعاملة وتجاهل شكواهم، بضرورة على الأقل تحسين أوضاع حبسهم، بل ما يزيد الأمر قرفا هو رسائل التهديد التى تأتى لبعض أهالى الضباط، لمنعهم من الوقوف والذهاب إلى وزارة الدفاع للاعتراض، بل تهديدهم بعدم النزول إلى ميدان التحرير بصور أولادهم للاعتراض. ما يحدث لهم وبهم أمر يثير الوجع والخوف، هؤلاء الضباط الذين أخذوا من منازلهم ومن الميدان يوم الثامن من أبريل الماضى وهم معصوبو الأعين كاللصوص ووضعهم فى السجن الحربى، فى حين أن هذا المكان أولى باستضافة واحتضان القتلى الحقيقيين لشهداء الثورة. صوت الأمهات، وكل منهن تحمل صور أولادها الضباط وشهادات تقدير بطولاتهم والجوائز والتقييمات التى حصلوا عليها خلال خدمتهم القصيرة فى المؤسسة العسكرية، وهن يرددن الجملة الشهيرة -التى تقلب على ذكريات العهد البائد- «نطالب ونرجو من سيادة المشير عفوا شاملا عن أولادنا، نقول له: دول ولادك يا سيادة المشير، دول ولاد مصر، ولاد جيش مصر.. هؤلاء الشباب أحبوا مصر وأخلصوا لها ولم يخونوا البلد مثلما فعل الآخرون فلا تعاقبهم». توسلات الأمهات تشعرنى باستمرار السيناريو المؤسف، والحقيقة أن ما يشغلنى الآن ليس مصير هؤلاء الضباط فى السجن الحربى بكل تفاصيل المعاملة التى يلاقونها، إنما تشغلنى فكرة: 22 ضابطا فى السجن الحربى! ذلك العدد الذى يتم ترديده والله أعلم بما خفى وليس معلوما، بالإضافة إلى آلاف وربما مئات من الشباب الماثل أمام المحاكم العسكرية دون وجه حق.. بأى مشاعر وأفكار واتجاهات سيعيشون؟ ماذا ستصنع بهم تجربة الظلم من أجل الحرية؟ ربما يكون سؤالا فلسفيا لا علاقة له بما يشعرون به الآن.. ولكن الظلم كفيل بصناعة بطل مثابر أو بصناعة يائس كافر بالحرية. أملى أن يكون الفرج عليهم.. وعلى مصر قريبا!