فى مراحل العمر الأولى، وتعلم الأجزاء الأولى من القرآن المقدس، وحفظها وتلاوتها كجزء من عملية تعليمية مزدوجة أولها معرفة التعاليم الدينية الأساسية، من حيث أركان الإسلام -شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن أستطاع إليه سبيلا- وفق ما حدده الرسول "صلى الله عليه وسلم"، وشرح جزء عم وتبارك وحفظهما، وثانيهما: معرفة قواعد القراءة والكتابة والحساب. فى مراحل العمر الأولى، وتعلم الأجزاء الأولى من القرآن المقدس، وحفظها وتلاوتها كجزء من عملية تعليمية مزدوجة أولها معرفة التعاليم الدينية الأساسية، من حيث أركان الإسلام -شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن أستطاع إليه سبيلا- وفق ما حدده الرسول "صلى الله عليه وسلم"، وشرح جزء عم وتبارك وحفظهما، وثانيهما: معرفة قواعد القراءة والكتابة والحساب. كانت العملية التعليمية نقلية بامتياز وقوامها الحفظ والاستظهار من خلال المعلم الشيخ المعمم الذى كان يمارس سلطته من خلال آلية العقاب البدنى من خلال العصا، والفلكة لمن لا يحفظ، والضرب على الأيدى والظهر لمن يخطئ فى الحفظ، أو الضرب بالكف على الوجهين، عقاب متدرج، وفى بعض الأحيان على حسب الحالة المزاجية للمعلم كانت العملية التعليمية نقلية بامتياز وقوامها الحفظ والاستظهار من خلال المعلم الشيخ المعمم الذى كان يمارس سلطته من خلال آلية العقاب البدنى من خلال العصا، والفلكة لمن لا يحفظ، والضرب على الأيدى والظهر لمن يخطئ فى الحفظ، أو الضرب بالكف على الوجهين، عقاب متدرج، وفى بعض الأحيان على حسب الحالة المزاجية للمعلم الشيخ حسن، والاستحسان فى حالة الحفظ الجيد بكلمة أحسنت فقط. من هنا تشكلت الذاكرة الأولى فى أحد مكوناتها بين تعاليم الدين المقدس، واللغة العربية، وبين العقاب البدنى أو الاستحسان المقتضب، والشيخ المعلم رجل الدين، وهى حالة بدت عامة، فى مختلف أنحاء البلاد، فى الكتاتيب التى كانت منتشرة فى غالب القرى والمدن ما قبل التعليم الابتدائى الذى كان العقاب البدنى جزءًا من العملية التعليمية فى كافة مراحل التعليم العام كله حتى نهاية عقد الستينيات. من هنا تداخلت صورة المعلم/ الشيخ برجل الدين، خاصة فى الإعدادى فى مدرسة البدرشين الإعدادية، كان مدرس اللغة العربية والدين شيخ أزهرى معمم، لكنه كان شخصًا مختلفًا، أكثر انفتاحًا فى شروحه لبعض الشعر أو النصوص المقررة، ويحيل بعضها لبعض أغانى أم كلثوم فى بعض القصائد المغنَّاة. ارتبطت صورة رجل الدين المسلم بالعقل النقلى عمومًا، والنزعة الاتباعية للموروث وإعادة إنتاجه من خلال الحفظ والتكرار، وهو ما كان يبدو فى النسق اللغوى، من حيث صياغة الجمل والتعبيرات والمجازات التى كانت تخرج شفاهة وكتابة من متون الكتب القديمة حول العقيدة، والسيرة النبوية، والأحاديث. تغيرت الصورة فى الذاكرة مع اكتشافنا لكتابات بعض المشايخ الأزهريين الكبار، سواء من استمروا من خلال الأزهر فى إبداء اجتهاداتهم، وتفاعلهم مع قضايا العصر، والتحولات الاجتماعية فى بلادنا، أو قضايا التحرر الوطنى فى عقدى الخمسينيات، والستينيات من القرن الماضى. بعض صور المشايخ تغيرت مع بعض الذين خرجوا من دائرة التعليم والتأليف على مألوف السائد والمسيطر فى الأزهر ومعاهده وكلياته، ومنهم طه حسين الأستاذ العميد وأطروحاته المغايرة، وسحره اللغوى المنطوق والمكتوب فى أحاديثه الإذاعية، أو كتاباته الشهيرة، التى كشفت عن عمق تكوينه فى العلوم الدينية الأصولية، وتاريخ الإسلام، وفى انفتاحه الكبير والرصين على الفكر الأوروبى. وهناك بعض المجددين المشايخ الذين شكلت بعض كتاباتهم صورة للإسلام الاجتهادى المنفتح على قضايا العصر ومشكلاته، من أمثال المشايخ خليفة المنياوى، ورفاعة رافع الطهطاوى، ومحمد عبده -رائد التجديد- ومصطفى المراغى -الإصلاحى المتميز- ومحمود شلتوت، وعبدالمتعال الصعيدى، ومحمد عبدالله دراز، وعبدالحميد بخيت، ومصطفى عبدالرازق، ومحمد البهى، ود. أحمد الطيب، ومحمود عاشور، وآخرين. ساهم هؤلاء فى صياغة صورة لرجل الدين المنفتح والمجتهد، أيا كانت حدود اجتهاداته من حيث الجدة والتأصيل الشرعى. بعض من هؤلاء كانوا أكثر اجتهادًا، وتجديدًا، واتصالا ببعض معارف عصرنا، وقضايا وأسئلة ومشكلات الإنسان المسلم فى واقع اجتماعى وسياسى وتاريخى متغير، عن تاريخ وسياقات وظروف إنسان المراحل التأسيسية للعلوم الدينية الإسلامية وهمومه ومشاكله. كان تكوين هؤلاء المشايخ الكبار الشرعى منفتحًا على الحياة الحديثة وتحولاتها، وشكلت لهم تحديًا يستدعى استجابات مغايرة للإجابات النقلية الجاهزة، على الأسئلة والمشكلات والظواهر الجديدة فى حياتهم، ومن ثم حاولوا ومارسوا الاجتهاد والتجديد الفكرى. من هنا صاغوا صورة مختلفة لرجل الدين الإسلامى، من حيث التكوين الشرعى مع بعض المعارف الحديثة فى العلوم الاجتماعية، أو التفاعل الحى مع الأفكار الجديدة أو المستعارة التى تطرح فى الجدل العام من المثقفين والمفكرين والكتاب من المدارس الفكرية والسياسية المختلفة. هذه الصور لرجل الدين المجتهد غامت، وتراجعت مع نمو الأصوليات الدينية السياسية، والجماعات السلفية منذ هزيمة يونيو 1967 القاصمة أمام إسرائيل، وصعود العقل النقلى والسلفى المتشدد فى المجال السياسى، والتواطؤ والتوظيف السلطوى المتزايد للدين فى العمليات السياسية، وفى الهيمنة الأيديولوجية وفى التعبئة والحشد الجماهيرى، والإقصاءات للأطراف المعارضة وتسويغها باسم الدين. من هنا سيطر وشاع العقل الدينى الوضعى النقلى المتشدد المعادى للاجتهاد والتجديد الفكرى، ورفض الانفتاح على علوم العصر فى الفلسفة وعلم الاجتماع والقانون.. إلخ، مع استهلاك التقنيات الحديثة فى جانبها الاستهلاكى، وتناسى الأبعاد الفلسفية والثقافية والعلمية فيما وراء استهلاك التقنيات الحديثة فى جانبها الاستهلاكى، وتناسى الأبعاد الفلسفية والثقافية والعلمية فيما وراء استهلاك التقنية. فى ظل هذه السياقات المتغيرة، كانت بعض أصوات التجديد أو محاولاته تظهر من خارج دائرة رجال الدين المحترفين، وقليلة هى الاستثناءات داخلهم، إلا أن غالب هذه المحاولات ظلت أسيرة دوائرها، ولم تؤثر على مسارات وإنتاج العقل النقلى الوضعى المسيطر، سواء داخل الدوائر الدينية الرسمية، أو وسط العقل الأيديولوجى الدينى السياسى للجماعات الإسلامية السياسية، ومنظريها ومشايخ الإفتاء داخلها. من هنا يبدو أن إحدى المشكلات الأساسية التى تواجه أى مسعى تجديدى أو إصلاحى للفكر الدينى الإسلامى -والمسيحى المصرى الأرثوذكسى أيضا ولأسباب أخرى- تكمن فى تكوين العقل الدينى النقلى على نحو ما كان يتم فى قرون سابقة، من خلال الحفظ والاستظهار، وإعادة إنتاج مواريث الآراء والفتاوى فى المذاهب الإسلامية السنية وفق الجمهور، أو المفاضلات فيما بين بعضها بعضًا، أو الانحياز لمذهب وفقيه دون الآخر. كان بعض كبار المشايخ فى الأزهر، وبعض مشايخ مدرسة (كلية) الحقوق -أساتذة الشريعة الإسلامية- يلجؤون فى أثناء البحث عن حلول لتطوير قانون الأسرة -الأحوال الشخصية للمسلمين- إلى إيجاد آراء فقهية لحلول لمشكلات عملية من خلال اللجوء إلى المذاهب الأربعة، حتى ولو كان الأمر غير معمول به فى المذهب الحنفى (الرسمى). هذه الآلية فى البحث عن آراء إصلاحية لها حدودها، خاصة فى ظل عالم متغير، وسريع التطور فى إنجازاته العلمية والتكنولوجية والثقافية، وفى مشكلاته وأسئلته، وذلك على نحو غير مسبوق، وخاصة مع الثورة الرقمية والذكاء الصناعى. التشكلات التكوينية للعقل الإنسانى الرقمى الجديد، وتداخله مع تطورات تقنيات الذكاء الصناعى، ستطرح على العقل الفقهى والإفتائى الإسلامى، واللاهوتى المسيحى الأرثوذكسى تحديات حول أسئلة جديدة تمامًا، وتحتاج إلى عقل دينى تجديدى وخلاق، وإلى مقاربات فقهية جديدة، وهو ما يتطلب إحداث تغييرات كبرى فى نظم التعليم الدينى ومناهجه المقررة للانتقال من العقل الناقل، عقل الإجابات الجاهزة، والثنائيات الضدية حول الحلال والحرام والجزم، إلى عقل تتم تنشئته وتكوينه وتدريبه على ثقافة السؤال. هذا الأمر يحتاج إلى تعلم الفلسفات العالمية وتطورها، ومناهج علم الاجتماع، والقانون، والمناهج التاريخية، واللغوية المعاصرة، وذلك إلى جانب الدراسات الأصولية مع إعادة النظر فى بعضها من خلال نقد بعضها على المستويين المنهجى والتاريخى لاسيما التناقضات التى تظهر فى بعض متون الكتب التأسيسية المكونة لأصول المدارس الفقهية الكبرى. من الشيق ملاحظة أن بعض التكوين الذى يتلقاه طلاب العلوم الدينية فى الحوزات الشيعية، يتضمن دراسة الفلسفة الإسلامية، والغربية، وعلم الاجتماع، وهو ما لاحظناه فى بعض المؤتمرات العلمية فى المنطقة العربية التى شاركنا فيها، حيث يتسم خطابهم حول موضوعات مداخلاتهم، باللغة المعاصرة، واستخدامهم للمصطلحات الحديثة والمعاصرة فى العلوم الاجتماعية، ومعرفة بالأديان المقارنة، والمذاهب السنية. هذا ما رأيته من بعض آيات الله، من مثيل آية الله محمد شبسترى، عندما شارك فى أحد المؤتمرات فى جامعة البلمند فى لبنان. لا شك أن دراسات تاريخية ومنهجية للأديان والمذاهب، من منظور تاريخى وتحليلى يعتمد على الفهم والتحليل الموضوعى، من الأهمية بمكان، وذلك سعيًا وراء الفهم المتبادل، وتأسيس المشتركات الحوارية، والعمل معًا لمواجهة المشكلات الكبرى التى تواجه الإنسان فى عالمنا المضطرب والسائل، والذى يحتاج إلى تأسيس قيم حوارية، ودينية تتجاوز حدود الديانات، لتغدو جسورًا للتعايش الإنسانى المشترك. المعرفة المتبادلة فى موضوعية وإنصاف تبدو مهمة، وتدفع إلى تبيان أن كل ديانة تقوم بعبادة الله بطريقتها ووفق نظامها العقائدى وطقوسها وفقهها ولاهوتها ومذاهبها، وأن ثمة قيما دينية مشتركة كالمساواة، والحرية الإنسانية، والعدالة، والحب، والإخاء، والمسئولية الفردية والجماعية إزاء المصير الإنسانى، ومعصومية الجسد الإنسانى إزاء التعذيب والترهيب والإيذاء، وحرية التدين والاعتقاد، والاعتراف الإنسانى بوجود الآخر خارج دوائر الإيمان داخل كل ديانة، والحق فى الحياة والكرامة الإنسانية، وغيرها من الحقوق. إن تطوير مناهج التعليم الدينى، وإدخال العلوم الاجتماعية الحديثة والمعاصرة، ستساهم فى تخريج رجل وعالم دين عصرى، يستطيع مواجهة أسئلة مجتمعه وعالمه فى أصالة فكرية وعمق تحليلى وعقلى ونقدى معاصر، ولا يعنى ذلك تمييع العقيدة أو الإيمان أو القواعد الدينية، وإنما إنتاج العقل الدينى التجديدى والاجتهادى الذى يواكب عصره وتحولاته. من الشيق ملاحظة أن غالب الأفكار التجديدية التى تبدو استثنائية فى ظل هيمنة الفكر النقلى والسلفى، جاءت من مشايخ عظام فى الأزهر الشريف فى المرحلة شبه الليبرالية، وفى مرحلة التحرر الوطنى، وعلى رأسهم أساتذتنا المشايخ محمود شلتوت وعبدالمتعال الصعيدى ومصطفى عبدالرازق وآخرون. الحاجة إلى التجديد والاجتهاد لن تتحقق إلا من خلال تطوير أنظمة تكوين وتنشئة رجال الدين، وفى إطار من حرية الفكر والتدين والاعتقاد، لأنه لا خوف على تدين المصريين أو إيمانهم، وإنما الخوف من الجمود، ومن الأمية الدينية التى تنتشر فى ظل أنماط من التدين الشعبى التى يستغلها العقل الدينى السياسى الوضعى، فى الحشد والتجنيد والتعبئة. إصلاح التعليم الدينى مدخل لتجديد العقل الدينى، وإنتاج صورة جديدة لرجل الدين العصرى لوصل ما انقطع فى تاريخنا.