تجديد الفكر الدينى الوضعي، يحيل إلى العقل المصرى وكيفية اشتغاله وعملياته إزاء المسألة الدينية بكل مكوناتها وأبعادها وتداخلاتها وتطوراتها التاريخية، لا سيما فى ظل انفجارات العنف والتطرف، والتطرف العنيف، وأنماط العنف والإرهاب المختلفة، وإعادة إنتاج وتدوير أبنية فقهية وتأويلية وتفسيرية وإفتائية داخل المذاهب والمدارس الفقهية والكلامية التأسيسية، والحواشى المعتمدة عليها طيلة قرون من الجمود فى الفكر الدينى والكلامى ومدارسه، بعد إغلاق باب الاجتهاد، حيث تداخلت فيها الأهواء والمصالح والانتماءات الاجتماعية والولاءات السياسية، والفواعل والسياقات الداخلية والإقليمية المؤثرة على آلة إنتاج وإعادة إنتاج الأفكار والتفسيرات والآراء النقلية وشروحها الاتباعية المحمولة على التأويل الدينى والمصالح التى ينوء بها والتى تستتر فيما وراء الخطابات وحولها، وفى بعض الأحيان تكون جلية ومباشرة. من هنا يشكل العقل النقلى والاتباعى الآلة الرئيسة لإعادة إنتاج الموروث الفقهى والإفتائى والكلامى التقليدى بكل محمولاته فى سياقات وظروف وشروط اجتماعية وسياسية وتاريخية مغايرة، ومن ثم يبدو متنافرًا، ومتناقضًا ومتصادمًا مع الواقع الموضوعى ومشكلاته وأزماته وشروطه واحتياجات الإنسان المسلم، وأسئلة الإيمان، وإجاباتها فى ظل ظروف متغيرة، ومعها بعض الشكوك الفلسفية حول الأديان، والتطورات التقنية الهائلة فى عصرنا فى العلوم الطبيعية والاجتماعية التى تفرض مقاربات وأسئلة وإشكاليات مغايرة، ومن ثم إجابات مختلفة عن الإنتاج الكلامى -الفلسفى- والفقهى والإفتائى والدعوى الموروث. من هنا تبدو النزعة شبه التقديسية والتبجيلية الوضعية للإنتاج التاريخى للآلة الفقهية، لا سيما بعد غلق باب الاجتهاد. يفرض بعضهم فى بعض الأحيان سياجات ومحرمات على الإنتاج العقلى الدينى الوضعي، بحيث يخشى بعض المجتهدين من الفقهاء والكُتاب ورجال الدين من التناول النقدى والتاريخى للآلة الكلامية والفقهية والتفسيرية والتأويلية والإنتاجية لكبار الفقهاء والمؤرخين والمفكرين الإسلاميين ومساءلتها تاريخيًا وفلسفيًا وسياقيًا، على نحو أدى إلى توقف الاجتهادات والمقاربات السوسيو-تاريخية وثقافية ولغوية للإنتاج الفقهى التاريخي، على نحو يبدو ظاهريًا، وكأنه إنتاج معصوم وشبه مقدس والعياز بالله. ساهم فى بناء هذه المعصومية لدى بعض رجال الدين والمؤسسات الدينية الرسمية والكُتاب، نظام التعليم الدينى ومناهجه واعتماده على السياسة النقلية، فى التعامل مع المدارس الفقهية، والكلامية والتفسيرية والتاريخية المؤسسة للفكر الإسلامي، من خلال الاستظهار والحفظ والتكرار لبُنى الأفكار التأسيسية، والآراء المختلفة لمؤسسى المذاهب والفقه والتفسير، ومقارباتهم لموضوعاتهم المختلفة. من ثم يشكل النظام التعليمى الدينى النقلى إعادة إحياء وإنتاج للموروث الفقهى الوضعي، ويضفى عليه الهيبة والاحترام، ويزود بعض رجال الدين عنه إذا تعرض لأى مقاربة نقدية، حتى على الرغم من اعتماد بعضها على ذات الكتابات المرجعية التاريخية لبعض الفقهاء والمفسرين والمفتيين والمؤرخين والكلاميين الكبار والمؤسسين للمدارس المذهبية والفقهية وتابعيهم وتابعى التابعين!، داخل الإسلام السنى الأكثرى ... إلخ. ساهمت بعض الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية فى دعم وتكريس معصومية بعض المصادر الفقهية التفسيرية والتأويلية التى تتبناها أيديولوجيا، وذلك كسند لحركتها السياسية، أو ممارسة بعضها للعنف الطليق الذى يصل إلى الوحشية، كأداة رمزية وتأويلية تضفى الشرعية على عملياتها العنيفة، وفكرها المحرض عليها والمسوغ لها لدى أعضاءها وقياداتها وآخرين!. من هنا نستطيع ضمن عوامل وأسباب تاريخية أخرى، تفسير بعض من الجمود الفكري، وسلطة العقل النقلى المسيطر على عمليات إعادة إنتاج الآلة الفقهية التاريخية الموروثة للبنيات الكلامية والتفسيرية والتأريخية والفقهية والإفتائية، لذاتها، ومغايرة ذلك تبدو محدودة واستثنائية، ووجهت بعض الآراء والمقاربات التجديدية بعنت شديد، وعنف مضاد على نحو ما لاحظنا فى بعض الردود على بعض المجتهدين من الأزهريين، فى المرحلة شبه الليبرالية 23-1952 وما بعدها فى ظل نظام يوليو ومراحله المختلفة. منذ الصراعات السياسية التاريخية الدامية بين الدولة المصرية وأجهزتها، والنخبة السياسية الحاكمة وبين بعض الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية - الإخوان المسلمين، والفنية العسكرية "حزب التحرير الإسلامي"، وجماعة المسلمون "التكفير والهجرة"، والجهاد والجماعة الإسلامية، وصولا إلى تنظيم بيت المقدس وانضمامه إلى تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"- وتطرح مسألة إصلاح الفكر الدينى حينًا، وتجديد الخطاب الدينى فى أحيان أخرى، وذلك تعبيرًا عن أن التطرف الدينى عمومًا والعنيف والوحشى هو تجلى لبنية عقلية وفكرية حاملة لمسوغات تضفى شرعية وسندًا للتطرف الفكرى والدينى من خلال بعض الأفكار والتأويلات الفقهية الموروثة. من ناحية ثانية: أن المواجهات الأمنية الضارية على أهميتها فى مواجهة عنف بعض هذه الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية، ليست كافية لمواجهة بعض العقل النقلى العنيف رمزيًا وسلوكيًا، ومن ثم لابد من مواجهة مصادره الفقهية والتفسيرية والتأويلية الوضعية بالنقد والتفكيك والتحليل، فى مسعى لتجاوزه. أن متابعة بعض المحاولات المختلفة تشير إلى أنها منهجيًا وتاريخيًا وفكريًا تفتقر إلى المقاربات المنهجية والتاريخية التأسيسية الرصينة التى تساعد على ممارسة النقد التاريخى والفقهي، ومن ثم الممارسة العلمية والموضوعية الجادة لتجديد بنية العقل الدينى النقلى الوضعي، ومن ثم ممارسة اجتهادات تجديدية قادرة على تجاوزه لمشكلاته وأزماته التاريخية والمعاصرة. من هنا لا تزال الدعوة ذات الطابع الجزئى إلى تجديد الخطاب الدينى أو إصلاح الفكر الدينى تراوح مكانها دون أن تحقق إنجاز منهجى أو فقهى أو تفسيرى قادر على مواجهة مشكلات العقل الدينى الوضعى النقلي. من ناحية أخرى لم تنجز دراسة علمية وموضوعية عن الخطابات الدينية أو العقل الدينى -وبنيته وطرائق عمله ومرجعياته وآلياته وعملياته- يمكن أن تساعد على إنتاج حركية بحثية فى مجال تجديد الرؤى والأفكار والمقاربات فى الفكر الدينى.