توقفت أمس أمام الحجة أو السلاح الأوسع استخداما فى حملة الإرهاب والتشهير واسعة النطاق، بفكرة التوصل لتوافق وطنى ومجتمعى على مبادئ إنسانية عليا، بحيث تكون هاديا ومرشدا للجنة التى سيختارها النواب الناجحون فى الانتخابات المقبلة من أجل صياغة دستور جديد للبلاد. وقلت إن هذه الحجة تتذرع بواحد من المصطلحات التى شاعت مؤخرا وتصف هذه االمبادئ بأنها «فوق دستورية»، وشرحت كيف أن هذا التعبير الذى يستنكره البعض (متوسلا بالجهل) هو إصطلاح قانونى شائع ومستقر ومتداول فى أوساط الفقه والفكر الدستوريين، ذلك أن المبادئ والقيم التى يشير إليها هى بالفعل أعلى وأسمى من أى دستور، وإذا نصت عليها بنود الدساتير فهى لا تخترعها ولا تضيف لقوة شرعيتها شيئا، لأنها كلها حقوق طبيعية للبشر ناضلت الإنسانية نضالا طويلا للإقرار بها وفرض احترامها.. كالحق فى الحياة والحرية والعدالة والمساواة.. إلخ. وأكمل اليوم بأن الرافضين المشهرين بفكرة التوصل لوثيقة تجمع هذه المبادئ والقيم، وجلهم أو كلهم من إخواننا المتلفعين بعباءة الدين لتحقيق أغراض سياسية، هؤلاء لم يخل خطابهم التشهيرى (الذى يكاد يعترف برفض تلك المبادئ أصلا وأساسا) من حجج وأسلحة أخرى غير حكاية «فوق دستورية» أبرزها وأهمها حجتان، الأولى محاولة تصوير فكرة وضع وثيقة بهذا المضمون قبل اختيار اللجنة المكلفة بصياغة الدستور، على أنه نوع من «فرض الوصاية على الشعب».. لماذا؟ يقولون لك: لأن الشعب سوف ينتخب بضع مئات من الناس (أعضاء البرلمان) وبدورهم، وطبقا للخطة العجيبة التى وضعها المجلس العسكرى، فإن هؤلاء سيقومون باختيار أعضاء لجنة الدستور التى لا يجوز تقييد عملها بأى «مبادئ» أو أى «قيم»!! أما الحجة الثانية فهى تستند -ويا للعجب- إلى نتيجة الاستفتاء الذى كان موضوعه تعديل بضعة بنود فى دستور مبارك الساقط، لكن المتفوهين بهذه الحجة لا يشعرون بأى قلق وهم يهلفطون بأن وضع وثيقة مبادئ دستورية عليا فيه تحد وتجاوز ل«الإرادة الشعبية» التى أظهرتها نتيجة التصويت فى استفتاء 19 مارس الماضى!! وكما ترى فإن الحجتين تنطلقان من مفهوم وصورة عجيبة للشعب يرسمها الإخوة الذين ينسبون أنفسهم للدين الحنيف (بل يتجاسرون ويعتبرون مواقفهم وتصرفاتهم حجة عليه). أخطر ملامح هذه الصورة أن الشعب حاله كحالهم وشكله كأشكالهم، أى أنه هو أيضا يرفض ويعادى مبادئ وقيما سامية من نوع الحرية الكاملة والمساواة المطلقة بين البشر. هذا المنطلق والافتراض الشاذ يتجلى بوضوح فى الذريعتن المذكورتين آنفا، ففى الأولى مثلا، يقولون لك إن الوثيقة تفرض وصاية على الشعب على أساس أن هذا الأخير قد يختار فى الانتخابات المقبلة نوابا لا يحبون «المبادئ والقيم» الدستورية العليا، وبالتالى فإن هذا الصنف من النواب عندما يختار لجنة لوضع دستور جديد للبلاد سيبحث عن شخصيات من النوع الكاره للحرية والمساواة، والمتشوق إلى تقنين و«دسترة» التمييز بين المواطنين على أساس الانتماء لجنس أو عرق أو لون أو عقيدة أو دين!!! أما الذريعة الثانية فهى مضحكة وغريبة، لدرجة أن كثيرين يعجزون عن الرد عليها بعبارات مهذبة، إذ ما علاقة نتيجة الاستفتاء على بنود فى الدستور الساقط بالموضوع أصلا؟! إلا إذا كان المطلوب تحويل نتيجة الاستفتاء هذه إلى صنم أو إله وثنى نعبده من دون الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، ومن ثم نوليه على أمورنا وقضايانا كافة، بما فى ذلك أن نستخيره ونسأل جنابه لو كان يتعطف ويتكرم ويوافق على وضع وثيقة مبادئ سامية وعليا تحكم صياغة الدستور الجديد للبلاد!! يبدو أن الإخوة عبدة هذا الصنم «الاستفتائى» سألوا صنمهم هذا السؤال ورد عليهم حضرته بالرفض والاستنكار، فرفضوا واستنكروا هم أيضا...!!