ثمانون شهيدًا من رجال الشرطة سطروا بدمائهم في الإسماعيلية ملحمة وطنية لكل رفاقهم من بعدهم يتغنون بها ونقف أمامها إجلالًا واحترامًا لم تقدم معركة الإسماعيلية لنا شهداء نتذكر دماءهم الغالية التي خضَّبت جدران مبنى بلوكات النظام بالإسماعيلية، لكنها قدمت لنا دليلًا وتجسيدًا لمعنى أن يهون العمر ولا يهون الشرف، وشرف الجندي سلاحه يموت ولا يتركه وأرضه لا يتخلى عنها ولا يسلمها. هذا الشرف هو جوهر الشهادة كما جسدها لنا أبطال معركة الإسماعيلية. في أكتوبر 1951 أعلنت حكومة النحاس باشا إلغاء معاهدة 1936، وأصبح وجود القوات البريطانية في منطقة القنال -آخر معاقل الاحتلال في مصر- أصبح غير شرعي، وأصبحت مقاومته واجبًا ترعاه الحكومة بشكل غير مباشر، فأغمضت أعين أجهزتها عن نشاط الفدائيين في منطقة القنال خاصة في الإسماعيلية التي كانت مركز القوات البريطانية في أكتوبر 1951 أعلنت حكومة النحاس باشا إلغاء معاهدة 1936، وأصبح وجود القوات البريطانية في منطقة القنال -آخر معاقل الاحتلال في مصر- أصبح غير شرعي، وأصبحت مقاومته واجبًا ترعاه الحكومة بشكل غير مباشر، فأغمضت أعين أجهزتها عن نشاط الفدائيين في منطقة القنال خاصة في الإسماعيلية التي كانت مركز القوات البريطانية في القنال، وأغمضت عينيها كذلك عن انخراط الضباط في تدريب الفدائيين وتخطيط عمليات ضد القوات الإنجليزية في مدن القنال. لمتابعة التحقيقات الخاصة في يوم الشهيد وبينما تصاعد المد الوطني للمقاومة وللحصول على غاية الكفاح الوطني في جلاء الاحتلال تمامًا عن أرض الوطن، لم يكن رجال الشرطة المصرية بعيدين عن تطلعات أهاليهم، ولم يكونوا عملاء للقصر أو للإنجليز ضد الحركة الوطنية -كما ذهبت الدراما السينمائية- بل انخرطوا فيها وانغمسوا داخلها كجزء من الوطن يدافعون عنه ويقدمون أرواحهم فداء له. ولم يمض كثير من الوقت حتى كانت القوات الإنجليزية تتحرك لتضرب قوة الشرطة الرئيسية في الإسماعيلية، بعد أن تأكدت من تقديمها العون الكامل للفدائيين في عملياتهم ضد جنودها والتستر عليهم وحمايتهم من بطش الإنجليز. وحركت آلاف الجنود لمحاصرة بلوكات النظام وطلبت من قوة الشرطة تسليم أسلحتها ومغادرة المبنى فوقع الصدام التاريخي. نحو ثمانمائة جندي نصفهم مسلح بالعصي الخيزران، والنصف الباقي يحمل بنادق خفيفة، وقفوا على قلب رجل واحد يرفضون تسليم مقر الشرطة للقوات الإنجليزية ويرفضون الإذعان لإنذار قائدهم أكسهام، بوضع أسلحتهم والخروج للنجاة بأرواحهم. لم يترددوا أو يتراجعوا وهم يرون ثلاثة آلاف جندي يحاصرونهم بدبابات ومدافع ولم يتخاذلوا بعد أن تركتهم قياداتهم في القاهرة يواجهون مصيرهم وحدهم دون دعم مادي أو معنوي. وكانت معركة الإسماعيلية في 25 يناير 1952 تتويجًا وفخارًا لوطنية رجال الشرطة الممهورة بدماء أكثر من ثمانين شهيدًا وبطولة مئات قاتلوا حتى آخر رصاصة، كانوا يعلمون تمامًا أن فرصتهم معدومة ومع ذلك تشبثوا بالدفاع عن موقعهم تشبثهم بالدفاع عن العرض. ولولا نفاد الذخيرة لواصلت القوة المصرية المقاومة حتى سقوط آخر رجل شهيدًا. أقرا أيضاعوني عازر.. استشهادي زُف للسماء بزورق الطوربيد وقبل أكثر من خمسة عشر عامًا التقيت هذا البطل الراحل اللواء مصطفى رفعت، الذي شاء قدره أن يكون في قلب المعركة يقودها وهو ضابط صغير برتبة نقيب، وما زلت أذكر نظرات عينيه وهو يستدعي ذكريات المعركة بل وما قبلها، كان كمن يشاهد بعينيه صورًا حية ويقصها كأنها تحدث في التو واللحظة، بدءًا بتركه التدريس في كلية الشرطة مع الفنان الراحل صلاح ذو الفقار وآخرين ليلتحقوا بقوات الشرطة في الإسماعيلية فقط، ليكونوا جزءًا من حركة مقاومة الاحتلال مع رجال المقاومة من الفدائيين. يقول رفعت: "ذهبت إلى الإسماعيلية قبل المعركة بفترة طويلة بعد أن حصلت على فرقة قتال مدن في القوات المسلحة، وبدأنا بتنظيم المقاومة الشعبية وتنظيم رجال الشرطة في منطقة القنال والتي لم تكن فقط جزءًا من المقاومة، بل وتساعد الفدائيين في عملياتهم، وكنت كضابط شرطة أتحرك فورًا إذا وقع أي فدائي في أيدي الإنجليز وأتسلمه". كان رجال البوليس المصري في منطقة القنال صداعًا آخر في رأس الإنجليز لا يقل عن صداع الفدائيين الذين يقتلون جنودهم ليل نهار. حتى إنهم أطلقوا على رجال الشرطة المصرية لقب الجراد الأسود Black Locas، وذلك لانتشارهم وظهورهم المفاجئ في أثناء عمليات الفدائيين ضدهم ومشاركتهم فيها. وعندما اشتدت المقاطعة ومُنع العمال المصريون من العمل بالمعسكرات الإنجليزية، تصوروا أن منطقة القنال منطقة إنجليزية واتجهوا لإجلاء من بها حتى قوات البوليس، وبالفعل تم إجلاء نحو ألف عسكري عن التل الكبير ونقلوا للقاهرة، ومع ذلك فقد حوكموا لأنهم تركوا مواقعهم. في الخامسة من صباح 25 يناير 1952 استيقظ رفعت ورفاقه في سكن الضباط على مبنى بلوكات النظام وقد حوصر بآلاف الجنود الإنجليز ونحو عشرين دبابة وعربات مدرعة تحمل مدافع. بادر الضابط الإنجليزي أكسهام النقيب رفعت وسأله: ماذا أتى بك؟ فسأله بدوره: ماذا أتى أنت بك؟.. فهذه مواقعنا، فقال إنه أعطى أوامر بإخلاء المبنى، وأن يستسلم الجنود بعد 5 دقائق. فما كان من رفعت إلا أن رفض القرار ولحق بجنود الشرطة المتحصنين داخل موقعهم. أقرا أيضاشهداء الشرطة.. سلام على النعماني وأبوزيد ومبروك وفي السادسة صباحًا بدأ قصف مبنى الشرطة بقذائف الدبابات وبدأ تساقط الشهداء. وفي الساعة الحادية عشرة جاء أول اتصال من القاهرة وكان من وزير الداخلية فؤاد سراج الدين، الذي طلب التحدث للضابط المسئول فأخبره رفعت بسقوط 11 شهيدًا. سألني ماذا يحدث وأجبته بكل شيء وعن القتلى، سألني: «إيه قراركم؟» أجبت القرار قرار العساكر كلها قبل أن يكون قرارنا.. لن نخرج ولن نستسلم سنقاوم لآخر طلقة، ولن يتسلموا إلا جثثًا هامدة. فعاد وزير الداخلية وسألني مرة أخرى: ده قراركم النهائي؟ أجبت: نعم، فقال شدوا حيلكم.. وانتهت المكالمة، وبعدها مباشرة انقطعت الاتصالات مع القاهرة لأنه بعد خروجي مباشرة سقطت دانة دبابة ونسفت الحجرة وعامل التليفون". لم يكن قرار المواجهة، كما أكد اللواء رفعت، قرار أي ضابط أو قائد أو مسئول بل كان قرار (عساكر الشرطة)، فقد حاصر أكسهام المستوصف الذي كان يستعمل لمبيت الجنود وبه نحو 250 عسكريًّا ومبنى قسم البوليس. واستمرت المعركة غير المتكافئة، كل ساعتين يتوقف القصف ويخرج الضابط المصري يطلب استدعاء الإسعاف لإجلاء الجرحى من جنوده، لكن أكسهام يرفض ويصر على الاستسلام دون شروط ويعود لقصف البلوكات بدانات الدبابات والمدافع. "كانت المعركة تتوقف وأخرج لأتحدث مع أكسهام لطلب الإسعاف فيصر على التسليم وأرفض قائلا: لن تتسلم منا إلا جثثا هامدة، فيعود للضرب". واشتعلت أرجاء المبنى بالحرائق حتى كانت الساعة الخامسة والنصف مساء عندما نفدت الذخيرة مع القوة المصرية ووصل القائد الإنجليزي "ماتيوس"، الذي وافق على شروط الضابط المصري للتسليم. وعندما دخل "ماتيوس" مبنى بلوكات النظام ليتسلمه وشاهد جثث الجنود المصريين تتكدس في طرقات المبنى خبط رأسه بيده وهتف: "أي عمل دنيء اقترفناه؟ في هذه اللحظة فقط، كما حكى "اللواء رفعت" أدرك حجم الخسائر التي وقعت بين جنوده الشهداء، وترقرقت الدموع في عينيه في صمت. ثم كان بعد سنوات وعقود أن تظهر معركة الإسماعيلية صوتا وصورة حية تتحرك في فيديو خرج منذ سنوات قليلة من تلك الثروة التي تمتلكها بعض الدول والتي تعرف ب"الجريدة السينمائية"، فكانت حكومة جلالة الملكة تصور بطولات قواتها في مستعمراتها وتذيعها على أهاليهم في دور السينما والساحات. أقرا أيضامصر ليست الوحيدة.. 6 دول عربية تحتفل بيوم الشهيد وفي هذا الفيديو يظهر لأول مرة ما سمعته سردًا من أبطال المعركة؛ كيف كان الحصار بالدبابات السينتريون، وكيف كان القصف بالمدافع وكيف كان حصار مبنى قسم الشرطة بأكثر من ثلاثة آلاف جندي ثم اقتحامه بالدبابات. وظهر الشهداء داخل المبنى سقطوا وبأياديهم أسلحتهم يدافعون عن موقعهم. وتلك الصورة الشهيرة للشهداء تظهر بوضوح في الفيديو لجثث عشرات الشهداء رصت إلى جانب بعضها البعض، بينما ظهرت مشاهد تفاوض قائد القوة على التسليم بعد أن نفدت الذخيرة واستسلم الجنود. المشهد الذي لم يظهر في الفيديو البريطاني كان مشهد تحية القائد الإنجليزي للجنود المستسلمين في أثناء خروجهم. وفي ذلك اليوم 25 يناير في أثناء وبعد المعركة كانت الإذاعة المصرية تذيع القرآن الكريم طوال اليوم لنعي القتلى، وفي اليوم التالي 26 يناير احترقت القاهرة، فهل كان ذلك الحريق غضبًا على شهداء الشرطة في الإسماعيلية، كما أكد اللواء رفعت؟ المؤكد أن معركة الشرطة سطرت ملحمة شرف وبطولة لكل رجالها شهداء وأحياء، بل إنها سطرت شرفًا لكل رجال الشرطة في مصر جيلًا وراء جيل يفتخرون به.