على جانبي الطريق إلى منطقة المصانع بأبي زعبل يقطع المدينة مصرف طويل ممتلئ عن آخره بمياه الصرف الصحي التي تنزحها «الكساحات» من المساكن والمصانع المجاورة على مدى اليوم، وتطفح أكثر من مرة في الشوارع الجانبية، وتفوح منها الروائح العطِنة وتسكنها المياه الآسنة، ومخلفات المصانع وجُثث الحيوانات النافقة التي لا يطيق رائحتها أي عابر. في الطريق إلى «العكرشة» لا تتوفر وسيلة مواصلات آمنة لنقل العمال إلى مقار عملهم غير مركبة «التوك توك» مقابل 10 جنيهات، هناك مظاهر التلوث البيئي تخيم على جنبات المكان وتغطي سحابة الدخان السوداء السماء، وتسكن الأرضية أكوام التراب المحمي الناتجة من عمليات الاحتراق والصّب في أكثر من 60 مسبكًا للنحاس والألومنيوم. كل الطرق الداخلية بالمنطقة غير ممهدة ورواسب الأدخنة والغبار محفورة على حوائط المنازل بصورة لا تجعل غالبية السكان يستطيعون استنشاق الهواء المعبأ بالسموم. الطريق إلى الموت المنطقة ليس لها سوى طريق واحد ضيق للغاية تسير فيه السيارات باتجاهين تم رصفه مرة واحدة منذ سنوات طويلة ولا يوجد صرف صحى بالمنطقة، وكل ما يوجد «موتور» لرفع مياه الصرف الصحى من مستوى أدنى لمستوى أعلى داخل المصرف الذى يُلقى به كل مخلفات المصانع من رصاص وقمامة وأيضا مخلفات مجازر الدواجن. كما أن المنطقة تعانى من عدم الوجود الأمنى بسبب عدم وجود نقطة أمنية وليس بها سوى وحدة صحية واحدة شبه مهجورة خالية من الأطباء والأدوية ومن أى تجهيزات أو رعاية صحية. تمتلئ شوارع المنطقة بمسابك المعادن التي تنصهر بالنار بصورة تدفع العديد من المارّة إلى كتم أنفاسهم أو استخدام كمامات واقية للأنف قبل أن يسكن الربو في صدورهم، ويختنقوا ويتركهم جثة هامدة. هنا يُصب النحاس درجة حرارة الجو عالية تقترب من 42 درجة مئوية، وهيئة الأرصاد تحذر المواطنين من الرطوبة العالية، وفي منطقة نائية بالقليوبية كان يعمل خالد فضل الشهير ب«عسلية» داخل مسبك نحاس ب«العكرشة» ويقف أكثر من 10 ساعات يومية على فرن نار يدوي تقترب درجة حرارته من 1500 درجة مئوية، ويتحمل ثالوث «الدخنة والنار والحرارة العالية» التي أصابته بالأمراض الصدرية مقابل 120 جنيهًا يوميا. أكثر من 30 عامًا قضاها «عسلية» في العمل كصنايعي دوار أو «سباك معادن» كما يطلقون عليه تنقل خلالها بين عدد من محافظات الجمهورية بدأها ب «فورم» نحاس في منطقة الفجالة، وصناعة أجراس الكنائس في صعيد مصر، و«جِلب» المصاعد والتروس حتى وصل إلى «تسميط» قوالب النحاس المنبعثة من الفرن اليدوي الذي يعمل عليه لأكثر من 4 أيام متواصلة. دخان قاتل يحمل عامل النحاس الأربعيني ما تبقى من فضلات المصانع (التراب المختلط بالنحاس والطن يُباع ب20 ألف جنيه) على كتفه طوال اليوم ليضعها داخل فرن يدوي تم تجصيصه من الداخل بالطوب الحراري بمعدل 200 أو 300 كيلو كل ساعتين، ثم يقلب التراب المحمي باليد عبر سيخ حديدي كل 10 دقائق حتى تنتهي عملية الصب، وتخرج قوالب النحاس التي تُباع ب600 جنيه للقالب الواحد. يقترب فضل باستمرار من الفرن لمتابعة النحاس، والنار الحارقة غيرت ملامح وجهه وأصابه دخانه بالربو في أوقات كثيرة أو كما قال «صهد طالع من الفرن ودخنة زيادة بتقفل صدري وبتضايقني وما بأقدرش أخد نفسي»، و«في شغل بيدخن يخليك تكره اليوم اللي اشتغلتها فيه لما يكون الهواء ساقط عكسي والدخنة الساقطة على الفرن تكتم الأنفاس».. يقول خالد فضل في ألم وحسرة. وفي الجوار علامات الحزن تسكن وجوه العاملين بالمسابك، ومن حين لآخر يردد أحدهم في قلة حيلة: «للأسف مافيش لقمة نضيفة، وهنا أكل عيشنا ولو اشتغلنا في غيرها نحس إننا تعبانين ونلف نرجع لها تاني حتى لو كانت مهنة موت». في أوقات كثيرة يضطر عمال المسابك إلى الاستمرار في وردياتهم لأكثر من 15 يومًا متواصلة نتيجة ضغط الشغل، خاصة في أيام الأعياد والمواسم، دون كوب مياه نظيفة للشرب أو وحدة صحية جيدة للعلاج، وإذا انقطعت الكهرباء عن المكان ضاعت عليهم اليومية ويجلسون في حيرة أيامًا كاملة بدون إنتاج أو يوميات ويتحملون كل المصاريف والانتقالات من جيوبهم و«الشُغلة مش مستقرة لو اشتغلنا أسبوع عِدِل ممكن نقعد قصاده 3 أو 4 أيام ضيعنا اللي اشتغلنا بيهم».. يقول عامل بالمسبك في حزن. خطر الموت مخاطر عدّة تطارد جموع العاملين بالمسابك الذين لا يرتدون أي كمامات تقيهم من حرارة الفرن العالية التي لا يتحملها أحد، ودخان النحاس الكثيف المنبعث في أثناء التعمير للفرن أو ما يطلقون عليها عملية «الصب»، والذي يحول المكان إلى سرداب مُظلِم لا يرون ظاهره من باطنه، فضلًا عن لسعات شظايا النار المتكررة التي لا يسلم منها أحدهم وتترك عاهات مستديمة على جلودهم تظل شاهدة على شقاءهم. أخطر ما في الصنعة أن يتعرض العاملون بها إلى أن يضرب قالب النحاس في جسدهم في أثناء تطفئته أو تبريده بالمياه، بعد أن تنتهي عملية الصب التي تستغرق ساعتين وتخرج بقايا النار المحمية من الفرن «الجلخة»، وهي الواقعة التي تكررت غير ذي مرة، وكشف نور عبد العال الذي يعمل في مسابك النحاس منذ أكثر من 10 سنوات عن إصابة بارزة في كتفه في أثناء العمل لا تزال غائرة في جلده. نور يتذكر تلك الواقعة بحسرة وهو يحكي: «اتلسعت أكتر من مرة في المسبك، والنحاس لزق في جلدي لما الميه طرطشت عليه في أثناء صب القوالب»، وصاحب العمل لا يهتم فلا يوجد تأمينات عليهم أو أي عقود تضمن حقوقهم في أثناء وقوع أي إصابات، ويقول لهم بأريحية تامة «اتحملوا أكل العيش مُرّ»، أو يتخلى عنه في ظروف مرضه، ويبحث عن عامل غيره. مصنع ذخيرة عامل آخر لم تترك النار مكانًا في ذراعه إلا علمت عليه وأصابته بحروق وعاهات مستديمة لا تزال غائرة في كتفه بعد سنوات طويلة، ورغم ذلك لا يستطيع أن يتركها أو يعمل في مهنة أخرى من أجل ذويه «بنقف في درجة حرارة مرتفعة جدًا لأكثر من ساعة متواصلة». خلال تلك الساعات يتولى العامل الأربعيني مسعود محمد مهمة تقليب ما يقرب من 25 أو 40 كيلو حديد داخل فرن درجة حرارته لا تقل عن 1000 درجة مئوية عبر سيخ معدني، لاستخراج 20 أو 30% من خام النحاس، ورائحة الدخان المتصاعدة لا تُطاق. وحين يتغيب العامل يومين أو ثلاثة عن الفرن ثم يعود مجددًا إلى المسبك فلا يتحمل حرارة النار العالية التي تصبغ وجهه باللون الأحمر الفاتح، ويتحول العمل داخل المسبك إلى أشبه ما يكون بالأشغال الشاقة المؤبدة في السجن أو داخل مصنع للذخيرة الحية. استخدامات عديدة لسبائك النحاس المستخرجة من الفرن في صناعة الكابلات والأسلاك الكهربائية الصفراء والحمراء، وأسلاك الضغط العالي، كما يتم إعادة تكريرها وتسييحها من جديد لصُنع «أوكر» الأبواب والحنفيات ومواتير الغسالات والسيارات. البحث عن وظيفة أكثر من مرّة قرر «عسلية» وغيره من عمال النحاس ترك العمل في تلك المهنة الشاقة والبحث عن وظيفة أقل ضررًا وأكثر استقرارًا، للتأمين عليه والوقاية من الأمراض التي سكنت جسده كالربو والحساسية، ولكنه في كل مرة لم يكن يتحمل البعد عنها أو كما يردد «اتعودت عليها خلاص هاروح أشتغل ايه ولما روحت شغلانة غيرها تعبت أكتر وبتبدأ من جديد وبتشتغل بأجرة صبي». على فرن النار الحامي الذي يصيب صهده كل من يقترب منه كان يقف عم فرج السيد الذي يقترب من عقده السابع ويقضي أكثر من 12 ساعة يوميًا أمام النار حتى «نحس» جلده من شدتها، وهو من أبناء منشية ناصر بمدينة نصر يقطع كل يوم المسافات الطويلة إلى منطقة العكرشة بأبي زعبل، ويتحمل ما يقرب من 30 جنيها في المواصلات ليعمل في مسبك النحاس. يتذكر العامل الستيني بدايات عمله بسباكة المعادن: «اشتغلت فيها من 30 سنة فاتت من أيام ما كان النحاس ب2 جنيه وحاليًا أصبح ب100 وشوية وإجباري علينا نشتغل هنا في العكرشة بعد ما البيئة وقفت كل المسابك المحيطة بالمناطق السكنية». القتل البطيء أكثر ما يُرهق عم فرج وغيره من العاملين بمسابك المعادن في أثناء ورديات العمل هو عدم توافر المواصلات وارتفاع الأجرة، فكثيرا ما يضطر للمبيت فى المصنع وكذلك دُخان النحاس الكثيف المتصاعد طول الوقت، وصهد النار الخارج من الفرن الذي يُلهِب وجوههم، بالإضافة لعدم وجود المياه النظيفة التي يشربها أو يُطفئ بها جسده في أثناء تصبب العرق منه في ساعات العمل، بصورة دفعته لأن يصرخ «دي مية مجاري لو غسلنا بيها وجهنا يحبب وتنتقل العدوى إلينا وتموتنا». وعلى الجانب الآخر قطع الحديث عم أحمد الذي يعمل بالمسابك لأكثر من 35 سنة، وترك رسالة مسكونة بالوجع والمرارة قبل أن يمضي إلى عمله ويغيب في زحمة المصنع، «إحنا تعبانين وبنموت بالبطيء عشان نأكل اللي ورانا.. وأنا ركبت فتيل في رجلي بسبب النار، وفينا اللي عنده الربو وبطل الصنعة بسبب الدخنة الزائدة وفينا اللي عنده حساسية على الصدر وقلة تغذية، وما بناخدش منها غير التعب والقرف والمرض بعد الشقى دا كله».